بقلم ذ. مولاي إسماعيل الناجي
[email protected]
تقديم:
لا جرم أن المرأة صنو الرجل في كل شيء، إلا فيما فَرَقَهُ الله بينهما حين خلق آدم وحواء. ولا شك أن بدء خلق الإنسان بـ"آدم" -عليه السلام- وتثنيته بـ"حواء" زوجِه لَيَحمِلُ الكثير من الإشارات التي قَلَّما مَن يلتقطها. كما لا خلاف في الشرع أن هناك بعض النساء أفضل من بعض الرجال، وأن بعضَ الرجال خير من بعض النساء.
وقد كثر اللغط هذه الأيام عن واقع المرأة. فَتَجَنَّى عليها أعداؤُها بالكيد لها، وتزيين الباطل لها حتى أوهموها أنه الحق من عند ربها.
وما هو في الحقيقة إلا تزيين شيطان مارِد يريد بها ما أراده أبوه "إبليس"-أعوذ بالله منه ومن بَنِيه- لمّا قاسم أبوينا في الجنة وأخرجهما من جنتهما ومما كانا فيه من نِعَم.
يريد أن يعيد لها الكَرّة، و يوقعها في كشف عورتها كما كشفها عن والديها(آدم وحواء)، وطَفِقَا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
المبحث الأول: حوار هادئ مع المرأة .
ألم يأن للمرأة في هذا العصر أن تستفيق من سُباتها، وتفتح الجفون لترى الحقيقة شاخصةً مِلْءَ العين؟... فإلى متى هذا التغافل عن الواقع المرير الذي تعيشه المرأة؟ وتحاول دون جدوى إظهار سعادة زائفة، سرعان ما تُكَذِّبُها تعاسةٌ تابعة، تحاول جاهدةً أن تغطي الكرامة بتبرجها، وتخفي جمالها الروحي بإظهار ماسخِ جمالها الجسدي.
أيتها المرأة، اعذريني، فقد تجاسرت وتكلمت عنك، وأطلقت للساني العنان، رغم أنك لم تُوَكِّلِيني محاميا للدفاع عنك، إلا إني نظرت فيك، فرأيت فيكِ: الأم الحنون، والأخت المُآزِرة، والزوجة الوفية، والبنت البَارَّة...
أيتها المرأة، إني أخاطب فيك عقلَك الذي لم تُكَدّْرْه أفكارُ الغربيين الذين أرادوا لكِ التيه، ولا أخاطب فيك العقل الذي عطلته الخمور وتعبق منه رائحة التدخين وسائر أنواع المخدرات، التي صرتِ تعرفينها أكثر مني... ولا أخاطب فيك العقل الذي فُرِّغ من محتويات ثقافته ومُلِّئَ بَدَلَهَا ثقافة هجينة، بل دخيلة لمّا تكالبت على أعرافها وتنكرت لجذورها التي سقتها حتى اشتد عودها، فلما أصبحت على مستوى يعجب الزراع، سارعوا إلى حصاده بقطف زهورها.
إني أخاطب فيها العقل الصافي الذي يَحِنُّ للماضي التليد، ولم تستهوِه ملذات أهل الضفة الأخرى العابرة، بل ينتظر القدوة ليصحو من جديد، ويترقب الفرصة للانبعاث من جديد...
المبحث الثاني: عظمة نساء العصور الأولى (الصحابيات)
لن أتحدث في هذا المبحث عن النساء الصحابيات، فهن غنيّات عن التعريف، وحسبهن أنهن عاصروا النبوة من التشريف، ولَقِينَ من العناية ما أحسبه كافية، ولمن أراد -من القُرّاء الكرام- التوسع في سيرهن البرّاقة، وحيواتهن التي لا زالت تُحْدِثُ الأثرَ البالغ في النفوس الحية والضمائر الْيَقِظَةِ أدله على بعض هذه الدراسات المتخصصة فضلا عن كتب التراجم المفردة في الصحابة:
& -"من مناقب النساء الصحابيات": أبو محمد تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي الدمشقي الحنبلي(تـ600هـ)، تحقيق، إبراهيم صالح، دار البشائر، ط1، 1994م، (جزء واحد 1).
& -"السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين": محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري(ت694هـ)، تح.محمد علي قطب، دار الحديث- القاهرة، ط1، 1989م .
& -"موسوعة حياة الصحابيات": محمد سعيد مبيّض، دار الثقافة-الدوحة، ط1، 1410هـ/1990م.
& -"زوجات الصحابة": عبد العزيز الشناوي، مكتبة الإيمان- المنصورة، دط، دت .
ولكني سأخص نساءً من جيلٍ لاحق على جيل الصحابة، بل أبعد قليلا في الزمان، وأقرب في حُسن الفعال.
وقبل هذا وذاك أٌذَكِّر بحقيقة يعتقد خلافها، فلا يصح بحال من الأحوال ما يشيعه المرتبصون بنا -أو الجاهلون المتجاهلون بتاريخنا-، أن أسلافنا في حضارتنا الإسلامية همّشوا المرأة، واعتبروها آلة لصنع الأولاد وخدمة البيوت، بل قدوتنا رسول الله -عليه السلام- الذي لم يسافر سفرا لم يُقرع بين نسائه، أيتهن تكون بجانبه. ولا خاض حربا لم تكن فيها مجاهداتٌ إما بالسيف، أو بضمادات للجروح، أو بقدور راسيات للجنود، ومن اطلع على التاريخ الإسلامي، وجد هذا حقا.
كما أن سيدنا عمر الفارق-رضي الله عنه-، الذي أراد أن يحدد المَهر رحمة بالنساء، فانتدبت له سيدة، بكل شجاعة -فقدت اليوم حتى في بعض الرجال- قائلة: «يا أمير المؤمنين نهيتَ النَّاس أن يزيدوا في مهر النساء على أربع مائة درهم ؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله تعالى يقول: {وآتيتُم إحداهنَّ قنطاراً...الآية} [النساء: 20]؟ قال: فقال: اللهمَّ غفراً، كل النَّاس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب» (1) .
المبحث الثالث: نماذج مختارة من نساء رائدات
لقد اخترت لكم -أيها الأعزاء-، نساءً بصموا التاريخ العريق، لكن لكثرة فتن الناس عن القراءة اليوم تُنُوسي دورُهن في الحضارة الإسلامية. وأنا ذاكرٌ بعضَهن اعترافا بفضلهن، ولست أَدَّعي استيفاءهن في هذا المقال، بل هذا يحتاج إلى كتب وموسوعات. وحسبي في هذا المقام أن اجتهدت في جمع بعض سيرهن من غياهب الكتب النادرة المنسية.
وسأذكر ما حضرني من أسماء بعضهن باختصار شديد.
أولا: "أم البنين فاطمة" و"أم القاسم مريم" الفهريتان:
-أولاهما: "فاطمة الزهراء" ابنة "محمد بن عبد الله الفهري" وفدت على المغرب هي وأختها "مريم" ضمن من وفد القيروانيين في عهد الدولة الإدريسية، ويكفيها فخرا أنها بَنَتْ جامعَ «القرويين» على أنقاض المسجد القديم فَجَمَّلته على عدوة فاس سنة 245هـ، التي تعتبر أول وأقدم جامعة في العالم(ت265هـ).
-وثانيتهما أختها "مريم أم القاسم" التي سلكت طريق أختها طريق الفلاح، فأنشأت بدورها مسجداً عرف باسم"جامع الأندلس".
ثانيا: عزيزة عثمانة:
وهي ابنة أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان داي وزوجة حمودة باشا المرادي. أنشأت "مارستنا"(3) تعالج فيه جميع الأمراض في نهج العزّافين سُمّي فيما بعد "المستشفى الصادقي". كما حبّست كثيرا من ممتلكاتها في وجوه البرّ والإحسان. واعترافا بجميل فضلها في الميدان الصحي فإن مستشفى عظيما بالعاصمة التونسية يحمل حاليا اسمَها تخليدا لذكراها (ت1449م).
ثالثا: خديجة بنت الإمام "سحنون" الجازية الهلالية(2):
وهي ابنة حامل لواء المذهب المالكي بالمغرب معروفة برجاحة العقل وبالعلم وبالفتوى والفقه. وهي من الشخصيات المحورية في السيرة الهلالية وأنموذج للمرأة الشجاعة والمحاربة والأديبة... (ت270هـ).
رابعا: السيدة المنوبية:
هي عائشة بنت الشيخ المرابط أبي موسى عمران بن الحاج سليمان المنوبي وهي من أهم المتصوّفين والمفكرين في تونس وكانت لسان دفاع عن الفقراء والمساكين. وتوفيت سنة 1297م
خامسا: أروى القيروانية:
أميرة أغلبية أصيلة "القيروان" اشترطت على الخليفة "أبي جعفر المنصور" أن يقر في عقد زواجها أن لا يتزوج بامرأة ثانية. وإليها يرجع فضل ظهور "الصداق القيرواني"، إذ هي أول نازلة اجتهد فيها الفقهاء، فأقروا هذا الشرط .
وهذا غيض من فيض، ويكفينا دليلا على طول باع النساء الرائدات اختصاص بعضهن في التأليف، حتى أفردت دراسة في ترجمة المؤلِّفَات ومؤلَّفاتهن، وهي:
& -"المؤلفات من النساء ومؤلفاتهن في التاريخ الإسلامي": محمد خير رمضان يوسف: دار ابن حزم-بيروت، ط2، 1421هـ/2000م، (ضَمَنَّهَا 36 ترجمة حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري).
الإحالات:
(1)- الأثر مُخَرَّجٌ في"التاريخ الكبير" للبخاري:(8/9)، و"الضعفاء والمتروكين" لابن الجوزي: (3/35)، وسنن البيهقي: (7/233 ).
(2)- تنتمي الجازية للقبائل العربية من بني هلال وبني سليم القبائل التي انطلقت من الجزيرة العربية في منتصف القرن 11هـ.
(3)-المريستان: كلمة فارسية، معناها مكان المرضى، وهي المستشفى باصطلاح اليوم .