-ابداع مدرسي مُعرَّض للانقراض في غياب الإمكانيات-
في منطقة لازالت تعاني من ويلات مغادرة أبنائها نحو الضفة الإسبانية بطريقة غير شرعية، يحاول نادي المسرح "صوفوكل" بثانوية مولاي عبد الله بسيدي إفني جنوب المغرب تجاوز مشكل غياب الإمكانيات المادية واللوجستيكية لإنجاز مسرحية "صامتة" تحمل رسائل قوية، لعل أهمها حث التلاميذ على التمسّك بمتابعة الدراسة بدل التفكير في ركوب "قوارب الموت"؛ فتزايد عدد العاطلين عن العمل إلى جانب الاعتقاد في حياة أفضل بالضفة الأوروبية لازال يدفع الكثير من المراهقين إلى مغادرة الدراسة تقليدا لبعض من سبقوهم.
"لانزاروتي" و"فينتي بينتورا" وغيرهما، جزر خاضعة للإدارة الإسبانية وأقرب إلى سيدي إفني جنوب المغرب منها إلى اسبانيا، والمهووسون بها ينتظرون هدوء البحر للعبور إلى إحداهن، منهم من ينجو، والبعض يقضي نحبه بين أمواج البحر، وآخرون يجدون أنفسهم في غياهيب السجون قبل إعادتهم إلى أرض الوطن.
حلم على "قارب الموت"
أمين، مثلا، تلميذ عمره لا يتعدى17سنة، يدرس بالأولى باكالوريا، يحلم بأوروبا، ويصر على أن مستقبله لن يكون أفضل إنْ لم يهاجر إلى "لانزاروتي"؛ بصوت منفعل، يقول: "لا تنمية..، لا مرافق عمومية في المستوى...، معظم خريجي الجامعات معطلون عن العمل..، وليس هناك سوى الوعود الكاذبة..، الذين هاجروا إلى أوروبا حسّنوا مستواهم الاجتماعي والاقتصادي وأخرجوا أسرهم من الفقر، وفي كل صيف يعودون في حلة باهية، وبسياراتهم الجميلة يقضون العطلة بيننا..".
مليكة لم يعجبها ما صرح به زميلها، فَرَدَّت بشكل استنكاري: "أنَسِيتَ أن السنة الماضية مات أحد شباب المنطقة غرقا..!؟ ألم يَجْرِ الحديث عن أنه كان يحاول الفرار من ملاحقة الدرك الملكي بعد اكتشاف أمر القارب..!؟. وقبله ألم يُقتل بعض شباب سيدي إفني في عرض البحر بعد إغراق قاربهم، لتتضارب الروايات بين من يؤكد أن الشرطة البحرية الاسبانية تعمدت صدم القارب، ومن يقول أن الأمر كان مجرد حادث غير مقصود..!؟ وحتى إن نَجا البعض، فإنهم يعيشون في خوف دائم من امكانية القبض عليهم..!؟ اسألْ جاركم علي عن تجربته..!".
علي، أحد الذين وصلوا إلى الضفة الأخرى بسلام لكنه أعيد إلى المغرب بعد قضاء شهرين حبسا، سألناه هل لازال يفكر في الضفة الأخرى، فأجاب بعد هُنيهة تفكير: "لا، لا..، أوروبا لم تعد كما كانت، أخي رشيد الذي بقي هناك تمكن من الحصول على وثائق الإقامة لكنه يعمل في مهن كان أصلا يرفضها بالوطن، تارة يعمل في تنظيف المراحيض وغسل أواني بعض المطاعم وتارة في أشغال البناء، وأحيانا يظل بلا عمل، هو يريد العودة إلى أرض الوطن لكنه يخشى من سخرية وشماتة الأصدقاء".
إن مثل هذه التمثلات والنقاشات تكاد تكون روتينية في صفوف التلاميذ، يقول "العم البوشوفي"، كما يحب بعض زملائه المناداة عليه، هو مدرس اللغة الفرنسية منذ عقدين من الزمن، خفيف الظل، طيبوبته وتواضعه بادية على محياه، ولا يزيده الشيب إلا وقارا، السنوات العشرين التي قضاها بنفس المؤسسة لم تضعف معنوياته؛ "لا زال بنفس الحيوية التي عهدناه بها حين كان يدرسنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي" يقول بعض الأساتذة الذين يُدَرِّسون اليوم بجانبه. وها هو اليوم يحاول جاهدا تجاوز ضعف الإمكانيات من أجل إخراج مسرحيته الثانية إلى حيز الوجود، مسرحية بلغة الجسد لا باللغة المنطوقة.
"إن أبرز أهداف المسرحية التي نعدها هي بعث رسالة مُشفّرة بلغة الجسد إلى المتعلمين مفادها أنه: بدل التفكير في ركوب قوارب الموت فإن المستقبل الأفضل رهين بمتابعة الدراسة. أما رسالتنا للمسؤولين فهي: الإسراع في النهوض بالمنطقة وتنميتها وتوفير فرص أكثر لتشغيل أبنائها"؛ الكلام لـِ"العمّ البوشوفي".
مسرح من لا شيء..!
في قاعة لا يتجاوز حجمها 50متر مربع، يتدرب 10تلاميذ وتلميذات على أداء مسرحيتهم، بمعدل أربع ساعات في الأسبوع، بإمكانيات متواضعة جدا: حصير بلاستيكي بالٍ يَقيهم أحيانا من حر برد الأرض، ثوبٌ أزرق، جواربٌ نسائية شفافة، زعانف خشبية، راديو-كاسيط مُهترئ لبث موسيقى "ناس الغيوان"، والكل يتمرّن تحت إشراف الأستاذ البوشوفي والمدرب المتطوع الزغاري. قاعة التدريب هي أصلا قاعة خاصة بمادة اللغة الفرنسية وليست مسرحا، "ففي مساء كل يوم جمعة نضطر لإخراج المقاعد الخشبية، لأجل استغلال أكبر قدر من مساحة القسم، لنعيدها بعد الانتهاء من التدريب" تؤكد بتأسف إحدى التلميذات.
سألنا "العم البوشوفي" عن الصعوبات التي تعترض فريق العمل، فأجاب بحُرقة وتَحَسُّر: "كما لاحظتم لازلنا نعمل بإمكانيات ذاتية محدودة..، السنة الماضية تأهلنا إلى الاقصائيات الجهوية للمسرح المدرسي بمسرحية"Le vide noir، لكن وجدنا صعوبات كبيرة في التنقل وفي توفير مصاريف التغذية، فالسلطات المحلية لم تتعامل معنا على النحو المطلوب، ولم نحصل على سيارات النقل إلا في الساعات الأخيرة، وغالبا ما ننفق من جيوبنا...".
حملنا المشكل إلى مدير المؤسسة، فأجاب: "الفضاءات التربوية بالمؤسسة متواضعة، لا زلنا نحتاج إلى التجهيزات الكفيلة بإنجاح المبادرات الثقافية أو الرياضية أو الفنية الموسمية، نحاول أن نجد حلولا مؤقتة قدر المستطاع ولو على حسابنا للحفاظ على استمرارية الأنشطة الموازية ودعمها"، مضيفا: "هزالة ميزانية المؤسسة، إن لم نقل غيابها، يحبط المبادرات الجادة..".
فهل سينجح لاعبو المسرحية من إقناع أمثال "أمين" في ادراك مخاطر الهجرة السرية أم أن إكراهات واقع البطالة أكبر من آمالهم؟ وهل سيتمكنوا من التنقل بإمكانياتهم المحدودة للمشاركة في الاقصائيات الجهوية للمسرح المدرسي؟