بقلم: صالح أيت خزانة
اقتربت الامتحانات، وانشقت القلوب من فزع الأجل الموعود .. اقتربت الامتحانات، وبلغت القلوب الحناجر، وتكثفت الجهود لتدارك لحظات النهاية "المقرَّرَة" بالمزيد من "المكاسب"، عسى أن تصادف لها يوم الامتحان مجالا للإنقاذ، و فرصة للتدارك !.
اقتربت الامتحانات، وانتبه الغافلون ليُصْدموا بركام الدروس والمقررات التي غفلوا عنها أيام اللعب والهزل واللامبالاة، طيلة عام من استنفار من يؤمن بأن المعالي لا تنال بالأماني، وإنما بالكد والجد وسهر الليالي.. !!
نعم، لقد انتبه من كانوا بالأمس يعتقدون أن الحياة لهوٌ ولعب وزينة وكسل... ليجدوا أمامهم العالم يتململ في "خشوع محرابي" فريد على أعتاب الإعداد لهذا الامتحان/"الغول" المقلق الذي أزف انطلاقه من قمقم المعاهد والمراكز والمؤسسات العمومية والخاصة، يشحذ سكاكينه الحادة ليختبر جماعات الطلبة والطالبات؛ فيعطفَ على من ألِفَه في محراب العلم والمعرفة، والتحصيل والمثابرة؛ فلا يجد منه وحشة، ولا يحس منه غربة. و يسلطها على من طالت غيبته عن التحصيل، واستوحشته الكتب والمقررات؛ فلا يقبل منه عذرا، ولا يستميحه صرفا ولا منطقا. فقد خلت من الأيام والأسابيع والشهور ما يتذَّكر فيها منْ تَذَكَّرَ، وجاءهم نذير الإعداد والاستعداد لهذا اليوم المعلوم؛ فما اتعظ الغافلون، ولا ارعوى المتكاسلون... ولات حين مندم !!.
والامتحان إنما سمي كذلك لاشتقاقه من المحنة؛ بما تعنيه من قلق، ومشقة، ومعاناة، ومكابدة،... وليست المحنة محصورة في امتحان يستدعي محاسبة آلِ المدارس والمعاهد والمؤسسات بأسئلة ووضعيات فقط، بل الحياة بطولها وعرضها مجال لسريان هذا "الامتحان"؛ بل هي المحنة ذاتها، والامتحان المستمر الذي لا ينتهي حتى تحل "مصيبة" الموت كآخر محنة عند من يجعل من الحياة أول المطاف وآخره !، وأخفَّها عند من يعتقد أن بعد هذه الحياة سيركب الناس "طبقا عن طبق" (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) (الانشقاق: 19)، وامتحانا تلو امتحان؛ برزخا، وعرضا، ومصيرا.. شدائد ومحنا بعضها فوق بعض.
وإنما نُذكر بهذه الحقائق، في هذه الآونة الاستثنائية والعصيبة، حتى لا يظنَّنَّ أبناؤنا الطلبة والتلاميذ أنهم هم فقط من سيُمتحن، ومن سيُعاني، ومن سيتحمل لأواء وضغط هذا "الغول" الآزف؛ بل الجميع في المحنة والابتلاء سواء. فمن أفقر مواطن يكابد صعوبة الحياة من أجل لقمة العيش، إلى أصحاب المال والسلطة من عليَّة القوم وعظمائهم؛ الكل يكابد ويكدح ويعاني ويَغْتَمُّ ... في هذه الحياة/المحنة.
فعندما كنا في المدارس نُقْبِل على الامتحانات، كنا ننظر حواليْنا إلى الناس، فنغبطهم على راحة عقولهم مما تهتم له عقولنا، وكنا نُمَنِّي أنفسنا أن نصير إلى ما صاروا إليه من المنصب والمكانة التي ظنت عقولنا الصغيرة أنها نهاية المعاناة والكد. أما الإعداد، و"حرق الأعصاب" وبذل الجهود، فهو قدَرُنا الذي سيستمر معنا- على الأقل- لسنوات !. وقد زاد في ترسيخ هذا الاعتقاد، أن أساتذتنا كانوا لا يكفون يُذكِّروننا بـ"الحكمة" الخالدة:" تعب الصغر، راحة الكبر"! . وكنا بدورنا نظن أن هذه الراحة التي يبشرنا بها أساتذتنا، راحة حقيقية لا نصب معها ولا وصب، ولا امتحان يقض المضاجع، ولا معاناة تتلف راحة العقول. لقد كنا نظنها نهاية سعيدة لمطاف تعيس !، وفردوسا أرضية فيها الهناء والراحة والأُنس الملائكي الرحب. لكننا ما لبثنا أن اكتشفنا مع تقدم العمر، وتَرَهُّلِ الجسد، أننا لا زلنا رهيني "الامتحان" الذي لا ينفك يلازمنا في حَلِّنَا وتِرْحالنا، وفي سرائنا وضرائنا. وحينما نلتفت حواليْنا، نكتشف أن هذه الحقيقة "المؤسفة" هي الحال عند كل الطبقات الاجتماعية، علا شأنها أو قل؛ الكل، في هَمِّ "الامتحان"، بَشَرٌ !!.
فليست هذه الحياة الدنيا مقرَّ هناء وراحة وسعادة وإن بدا للبعض أنها كذلك، وإن حاول البعض أن يعيشها كذلك، ويجهد جسده بتحسيس نفسه وإشعارها بخلاف "واقع الكدح"-لازم هذه الحياة وجوهرها- (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا)[الانشقاق:6]، فيلوذ إلى المخدرات، والكحول، والتدخين، والقمار، والزنا،... لينسى واقعه المرير، ويستدعي لذة زائلة تنتهي إلى جبال من الهَمِّ والغَمِّ والحزن والندم،... تنسيه كل لذيذ. وإنما النجاح الحقيقي، والسعادة المطلقة، بعد هذه الحياة الدنيا الزائلة، لمن أحسن فيها العمل، وأخلص النية، والتزم فيها منهج الله تعالى و"مُقَرَّرَهُ العَبْديَّ"، تماما كما ينجح ويفوز ويسعد، من الطلبة، من أجهد نفسه وعقله في تحصيل العلم، وفَهْمِ "المُقَرَّر"، وإعداد الزاد ليوم الامتحان!... فهل من مُعْتَبِرْ؟ !!
دمتم على وطن.. !!