عبد اللطيف بوعبدلاوي
إن من الخطأ البين أن نحصر أهداف المدرسة في تعليم النشء وإنماء رصيده العلمي والمعرفي، وأن نقتصر في تقييمنا لأداء المنظومة التربوية ومخرجاتها على المعايير التي تستهدف الجانب المعرفي بعيدا عن الجوانب الأخرى القيمية والتربوية والسلوكية؛ لأن المدرسة -ببساطة-لا تعلّم فحسب، وإنما هي مع قيامها بوظيفة التعليم تربّي وتثقّف وتهتمّ بتنمية الاتّجاهات الإيجابية لدى المتعلم، وتسهم إسهاما مهمّا في بناء شخصيته وصياغة أبعادها الاجتماعية والوطنية والحضارية.
ولا يخفى أن صياغة شخصية الانسان عموما لا تتحقّق بإنماء مخزونه المعرفي العلمي فقط، وإنما يتحقّق ذلك بتنشئته على منظومة من المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي تواطأ عليها المجتمع بكل فئاته ومكوّناته، وتوارثتها أجياله المتعاقبة، وشكّلت مع مرور الزمن مشتركا قيميا وثقافيا إنسانيا يطبع الشخصية التي تنتمي إلى هذا المجتمع، ووعيا جمعيا يشترك عموم أفراد المجتمع في امتلاكه وتمثّله والدفاع عنه.
إن مهمّة بناء المواطن وصياغة شخصيته من مختلف جوانبها تتطلّب جهدا تربويا يتجاوز ما يقوم به البعض من حصر أدوارهم في شحن أذهان التلاميذ بالمعلومات والمعارف في التخصّصات المسندة إليهم، إلى تبنّي خطاب تربوي يستبطن منظومة القيم التي أجمع عليها المجتمع.
ونؤكّد هنا أننا لا نتحدّث عن أفكار واختيارات واتجاهات تتبناها فئة ما من المجتمع، وتحاول الترويج لها وإبرازها من خلال الخطاب التربوي الرسمي، فهذا أمر مرفوض مبدئيا؛ لأن المدرسة لم توجد لتعبّر عن فئة من فئات المجتمع وعن قناعاتها وإيديولوجياتها أيّا كانت هذه الفئة، ولكن المدرسة باعتبارها مؤسسة وطنية ينبغي أن تعبّر عن العصارة الثقافية والقيمية التي تجسّد الشخصية الوطنية في امتداداتها التاريخية والاجتماعية والثقافية. وبعبارة أخرى، المدرسة لا تروّج لقضايا ثقافية وقيمية واجتماعية خلافية في المجتمع، ولكنها تعبّر عن المشترك الإنساني في المجتمع الذي تنتمي إليه وتشتغل في إطاره.
ولعل من المفيد ونحن نتحدّث عن الدور الطليعي للمدرسة في مجال إعداد الإنسان وتنشئته من مختلف الأبعاد الثقافية والقيمية والاجتماعية والحضارية، بالإضافة إلى البعد المعرفي، أن نرجع إلى ما كتبه المفكر مالك بن نبي في هذا الصدد، حيث انتقد التمثل السائد في المجتمعات العربية عن دور المدرسة، والذي يحصره في إغناء الزاد العلمي والمعرفي للمتعلم والحرص على مراكمة المعلومات لديه، بينما الدور المنوط به أكبر من ذلك بكثير، إنه بناء الشخصية من الناحية النفسية والثقافية والاجتماعية بما يتناسب مع حجم التحديات التي تواجهها وتواجه المجتمع الذي تنتمي إليه. يقول: " إننا لم نفكر في التعليم على أساس اجتماعي نفسي، وإنما على أساس مدرسي وجامعي...ونكيّف التعليم ليكون عملية تهدف أساسا إلى إضافة المعلومات بعضها إلى بعض، لا ليكون عملية تصفية نفسية في مستوى الفرد ومستوى المجتمع، أي بوصفه صياغة الإنسان صياغة جديدة تتواءم مع ضرورات الداخل وضرورات الخارج."[1]
"... وهذا يعني ألا توضع برامج التعليم لما يسمى (العلم)، ولكن طبقا لشي أعم بكثير هو (الثقافة)، أي أن توضع برامج تتّصل بعالم النفس والدوافع الأساسية، ثم بعالم العقل والمفهومات، وبعالم الأشياء والحاجات."[2]
إن المدرسة لا تعمل في الفراغ، ولكنها تعمل في إطار مجتمع إنساني له مشكلاته الثقافية والاجتماعية والحضارية، وتشغله بالإضافة إلى هموم الحاضر هواجس المستقبل وتحدياته. وفي سياق الاستعداد لذلك كله يجب على المدرسة أن تأخذ موقعها الريادي في معركة النهوض الحضاري، وأن تكون فضاء تتشبّع فيه الأجيال بكل المقومات النفسية والقيمية والثقافية التي تعدّ الفرد والمجتمع لخوض هذا الغمار وكسب تحدياته.
إذا نقلنا الخطاب من طابعه المبدئي العام إلى واقعنا المغربي المعيش، فإننا نقدر أن المدرسة المغربية عليها أن تكون في طليعة المؤسسات المجتمعية التي تسهر على حفظ النموذج الثقافي المغربي، وترسيخ معالمه ومكوناته في وجدان وفكر المتعلم المغربي، حتى ينشأ معتزا بانتمائه إلى هذا المجتمع الذي له رصيده الحضاري وتجربته التاريخية الغنيّة على مختلف المستويات.
ومن الإنصاف أن نقول في هذا الصدد إن الوثائق الرسمية المؤطّرة لمنظومة التربية والتعليم قد حرصت على التنصيص على جملة من القيم الكبرى المتعلقة بالهوية والتاريخ والثقافة والاجتماع التي تتوخّى المدرسة خدمتها وترسيخها في المجتمع المغربي، ونذكر من ذلك ما يلي:
- نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين على اعتبار التربية على القيم من المبادئ والمرتكزات الثابتة، وجعلها ضمن خياراته الكبرى المؤسسة للمنظومة التربوية، وحدّد مجموعة من القيم الكبرى العقدية والحضارية والوطنية التي يهتدي نظام التربية والتكوين بمبادئها.[3]
- وأورد الكتاب الأبيض أن من المنطلقات الموجهة لمراجعة مناهج التربية والتكوين المغربية، اعتبار المدرسة مجالا حقيقيا لترسيخ القيم الأخلاقية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان وممارسة الحياة الديموقراطية.[4]
- واعتبرت الرؤية الاستراتيجية أن من وظائف المدرسة، التنشئة الاجتماعية والتربية على القيم في بعديها الوطني والكوني.[5]
كما سجلت الرؤية الاستراتيجية في هذا المجال أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين لا يزال يمثل الإطار المرجعي للإصلاح، مع ما يقتضيه من ملاءمات وتطوير يهم بالأساس أمورا منها: التربية على القيم والسلوك المدني.[6]
- وعد تقرير "التربية على القيم" الذي أصدره المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي التربية على القيم مسؤولية مجتمعية متقاسمة، تضطلع بها المدرسة إلى جانب الأسرة ووسائل الإعلام وباقي المؤسسات التي تؤدي وظائف ذات صلة بالتربية والتثقيف والتأطير.[7]
كما اعتبر أن ترسيخ التربية على القيم يشكّل اختيارا استراتيجيا لتجديد المدرسة ولقيامها الأمثل بوظائفها، وأحد مداخل تأهيل الرأسمال البشري[8]، ورهن نجاح التربية على القيم بضرورة ترسيخ منظومة قيمية تنسجم مع الخيارات الأساسية للأمة.[9]
ويمكننا حصر القيم التي تضمّنتها الوثائق التربوية، والتي تروم تنشئة المتعلّم المغربي على أساسها، في الأنواع الآتية:
- قيم دينية: وتشمل مبادئ العقيدة الإسلامية وقيمها الرامية إلى تكوين المواطن المتصف بالاستقامة والصلاح ...
- قيم حضارية: متعددة المكونات والروافد.
- قيم وطنية: على رأسها حب الوطن والتمسك بالملكية الدستورية.
- قيم حقوقية: ومن أهمها احترام الحق في الحياة، وكرامة الإنسان، وثقافة المساواة، والعدالة الاجتماعية...
- قيم الانفتاح: الانفتاح على اللغات الأكثر انتشارا في العالم، والتشبّع بروح الحوار، وقبول الاختلاف، وتبنّي الممارسة الديموقراطية في ظل دولة الحق والقانون، والاهتمام بالمشترك الإنساني...
- قيم بيئية: المحافظة على البيئة وتنميتها المستدامة، وتدخل فيها البيئة الطبيعية، والبيئة الرقمية الافتراضية والبيئة المدرسية.
- قيم المجال المدرسي: منها الانضباط، والمواظبة، والاجتهاد، والإسهام النشيط في القسم وفي الأنشطة الموازية...[10]
هذا الجهد مقدّر على مستوى التنظير التربوي، ولكن تعتريه مجموعة من الصعوبات على مستوى التنزيل، حيث يلمس مختلف المتدخلين في العملية التربوية الإخفاقات والتعثّرات التي تعرفها المدرسة المغربية في هذا المجال، وهو ما يستدعي تضافر الجهود التربوية ومضاعفتها لتعزيز المكتسبات التي تحقّقت، وتدارك جوانب النقص والإخفاق، والانكباب على معالجتها.
[1] مالك بن نبي، "تأمّلات"، دار الفكر، دمشق، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2002، ص: 192.
[2] "تأملات"، ص 194. وانظر كتابه "بين التيه والرشاد" دار الفكر المعاصر، بيروت، ودار الفكر دمشق، 1978م، ص 90.
[3] الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص 07
[4] الكتاب الأبيض ج1، الاختيارات والتوجهات التربوية العامة، ص11
[5] الرؤية الاستراتيجية ص05
[6] المرجع السابق ص 07
[7] تقرير "التربية على القيم" ص 08
[8] المرجع السابق ص 16 و26.
[9] المرجع السابق ص 16.
[10] "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، ص 07 و10، و"الكتاب الأبيض"، ج1، ص 11 و12 و "تقرير التربية على القيم"، ص12 و13.