اسماعيل الحلوتي
وأنا أتابع بقلق مسلسل الاحتجاجات والإضرابات، التي شلت مؤسسات التعليم العمومي في سائر جهات المملكة على مدى أزيد من خمسة أسابيع، وما ترتب عنها من هدر لزمن التعلمات لما يزيد عن سبعة ملايين تلميذة وتلميذا من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وهو المسلسل الذي انطلقت أولى حلقاته يوم الأربعاء 27 شتنبر 2023، إثر مصادقة الحكومة على المرسوم رقم 819.23.2 المتعلق بالنظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية، الذي جاء مخيبا لآمال الشغيلة التعليمية ودون مستوى تطلعاتها، مما تسبب في خروج عشرات الآلاف من الأساتذة للمطالبة بإسقاطه، إذ كيف يعقل أن يكون وحده من بين النظم الأساسية الجديدة في الوظيفة العمومية الذي لم يأت بأي زيادة في الأجور؟
فإذا بالمثل القائل "شر البلية ما يضحك" يقفز فجأة إلى ذهني في خضم هذا الاحتقان الشديد الذي تشهده الساحة التعليمية، لاسيما وأنا أرى وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة شكيب بنموسى، الذي هو نفسه مهندس النموذج التنموي الجديد ومهندس النظام الأساسي المشؤوم، يخبط خبط عشواء وهو يحاول جاهدا بشتى السبل والوسائل إقناع الأساتذة والأسر المغربية بأهمية نظامه البئيس، غير مكترث بما ترتب عن عناده من هدر للزمن المدرسي، الذي قد يعصف بمستقبل أعداد هائلة من التلاميذ الأبرياء، ويعرضهم للضياع والانحراف...
حيث أنه ولما لم يسعفه إشهار سلاح الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل، في إجبارهم على العودة إلى فصولهم الدراسية، من خلال مراسلة وزارته لمدير نفقات الموظفين بالخزينة العامة للملكة في 17 نونبر 2023، قصد تفعيل مسطرة الاقتطاع وفق مبدأ "الأجر مقابل العمل" ابتداء من فاتح نونبر 2023، وسلك سبيل "الدعم التربوي الرقمي عن بعد" بالمجان عبر المنصة الوطنية "TelmidTICE" للرد على تلك الإضرابات المتواصلة، وانتقالها في ظرف وجيز إلى الإعلان عن اعتزامها تنظيم حصص للدعم التربوي الاستدراكي خلال العطلة البينية الثانية الممتدة ما بين 3 و10 دجنبر 2023، حيث طالبت في مراسلة موجهة إلى مدير أكاديمية سوس ماسة ومدراء إقليميين ببرمجة زمنية خاصة بحصص الدعم المذكور، في محاولة منها لتدارك ما ضاع من زمن التعلمات في الإضرابات، علما أن هذه الأخيرة مازالت متواصلة، حتى بعد اللقاء الذي جمع يوم الإثنين 27 نونبر 2023 رئيس الحكومة عزيز أخنوش بالنقابات التعليمية الموقعة على محضر اتفاق 14 يناير 2023، لعدم تحقيق ما كان منتظرا منه.
ثم لم يلبث مهندس "نظام المآسي" أن ضرب أخماسا في أسداس، فاهتدى به تفكيره إلى تخريجة أخرى، تتمثل في عزم وزارته الاستغاثة هذه المرة بالأساتذة المتقاعدين وخبرات أخرى، لغرض تعويض ساعات الدراسة التي أضرب خلالها الأساتذة الرافضون للنظام الأساسي المشؤوم، وذلك بواسطة مراسلتها للمديرية الإقليمية بالرحامنة التابعة للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة مراكش-أسفي، وكذا مرسلة المفتشات والمفتشين التربويين ومديرات ومديري المؤسسات التعليمية العمومية في شأن الدعم التربوي، تخبرهم عبرها بالإجراءات الواجب اتخاذها في هذا الشأن.
إذ أنه سعيا إلى استدراك زمن التعلم لدى المتعلمات والمتعلمين، طالب المدير الإقليمي في الرحامنة رئيسات ورؤساء المؤسسات التعليمية التابعة لنفوذ مديريته بالعمل على تجاوز التعثرات الدراسية من خلال اعتماد عدة إجراءات، ومنها الالتجاء إلى أساتذة متقاعدين وخبرات من خارج مؤسساتهم التعليمية وقطاعات أخرى إن أمكن، بهدف تخصيص ساعات للدعم التربوي عبر حصص خاصة بالمواد والتعلمات الأساسية في شكل ساعات إضافية تنجزها هيئة التدريس خارج أوقات العمل، بوضع برمجة لاستغلال فترة العطلة البينية جزئيا أو كليا، فضلا عن مطالبتهم أيضا باعتماد عملية "التعليم عن بعد" عبر توجيه التلاميذ المستفيدين إلى استثمار الموارد الرقمية المتوفرة في اتجاه تعزيز تعلمات المنصة الوطنية السالفة الذكر "TelmidTICE" وما إلى ذلك من التوجيهات التي لن تجدي التلاميذ نفعا في هذه الظروف العصيبة التي يمر منها قطاع التعليم ببلادنا.
ولنا أن نتساءل هنا كيف أجاز الوزير بنموسى لنفسه الاستغاثة بالأساتذة المتقاعدين، وهم الذين تنكرت السلطات لكل ما أسدوه من جليل الخدمات في تعليم الأجيال وبناء الوطن على مدى سنوات طوال، أفنوا خلالها أزهى مراحل عمرهم في العطاء وتقديم التضحيات في أجواء من الحماس ونكرات الذات، دون أن يحظوا بأدنى التفاتة إنسانية منذ إحالتهم على المعاش، لما يواجهون من تهميش وإقصاء على جميع المستويات. حيث يتم استثناؤهم من أي زيادة في المعاش على غرار زملائهم المزاولين للعمل، ولا تتذكرهم أحد إلا في بعض المناسبات مثل الإحصاء العام للسكان والانتخابات أو للتأكد من استمرارهم على قيد الحياة لمواصلة مدهم بمنحة المعاش الهزيلة، التي لا تكفي في مواجهة مأ أورثهم العمل داخل حجرات الدرس من أمراض مزمنة، كالسكري وارتفاع ضغط الدم والقلب وغيره...
إن الأساتذة المتقاعدين مثلهم مثل باقي المواطنين المغاربة الشرفاء، الذين لا يتأخرون في الاستجابة لنداء الوطن، كلما كان هناك ما يدعو حقا إلى التضامن وتقديم العون، بيد أنهم يرفضون بشدة أن يتحولوا إلى مجرد سياط لجلد زملائهم وغيرهم ممن يدافعون عن حقوقهم ومطالبهم المشروعة، لسبب جد بسيط هو أنهم تربوا على الفضيلة والقيم النبيلة وليس على المكر والغدر. وما على بنموسى وغيره من المسؤولين الحكوميين إلا أن يعملوا على حل مشاكلهم بأنفسهم، كما يقول المثل الدارج "اللي دارها بيديه يفكها بسنيه".