إن ما يقصد بالانفتاح المزدوج هو الحاجة الملحة للوقوف على الجوانب المشرقة والمضيئة التي تميزت بها منظومتنا التربوية أيام تألقها، قبل أن يتضخم الخطاب البداغوجي المنبهر بالنظريات والتجارب إلى الحد الذي أجهز فيه على ما تراكم من مكتسبات لا ينكرها إلا جاحد أو مغرض ، إذ كيف يجوز إنكار مخرجات مدرستنا العمومية في كل مستوياتها من خلال مقارنة بسيطة بين المستوى المعرفي للمتعلمين خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي مثلا وما تحقق آنذاك من تراكم بأقل جهد وتكلفة، وبين الواقع المؤلم للمتعلمين اليوم وفي كل المستويات من الابتدائي مرورا بالثانوي فإلى الجامعي حيث القاسم المشترك هو التدني المطرد والفظيع للمستوى سنة بعد أخرى وعلى الرغم مما عرفته العقود الأخيرة من هيمنة وسيادة نظريات وطرق في التدريس اعتبرت مفتاحا سحريا من قبيل: التدريس بالأهداف فالكفايات فالتدريس بالمجزوءات الذي يشكل اليوم الوصفة الجامعة المانعة بالنظر لاكتساحها كل المستويات الدراسية من الابتدائي إلى الجامعي. ولعل انفتاحا موضوعيا على ذاكرتنا بعيدا عن كل نظرة تمجيدية لهذه الذات سيفرض علينا الاعتراف بأن منظومتنا التربوية قبل ثلاثين سنة ما كانت تعاني من أعطاب اليوم بكل أنواعها وأصنافها، ويمكن الاكتفاء بأخطرها وهي ارتقاء ظاهرة الغش اليوم وفي كل المستويات التعليمية إلى مستوى الحق، حيث أصبح للمتعلم الجرأة الكافية للدفاع عن "الحق في الغش" أمام كم المقررات الدراسية الذي يعترف الجميع بانعدام إمكانية إتمامها خلال السنة الدراسية لولا الاستنجاد بالتعليم الموازي المؤدى عنه، والذي يتم في كل الفضاءات وفي كل الأوقات من المقاهي إلى البيوت وإلى وقت متأخر من الليل والذي يتم إنجازه- وياللمفارقة الغريبة - في جزء كبير منه من طرف أطر الإشراف التربوي المكلفون بعمليات الإشراف والتتبع للاختبارات الإشهادية، والحريصون على مراقبة مدى توفر الصدق والصلاحية في هذه الاختبارات، ومدى استجابة الحصص الدراسية القانونية المقررة لكل مادة على حدى لإنجاز المقررات.
كما أن المقصود بالانفتاح المزدوج كذلك هو الانفتاح على المرجعيات النظرية والتجارب التربوية الميدانية ، للاستفادة منها لا من حيث الاستعارة الآلية لها، وإنما من خلال البحث عن المنطق الذي يتحكم في نجاح تلك التجارب لتكوين قناعة راسخة بأهمية استحضار ذلك المنطق الذي بدونه لا يمكن الحديث عن ذلك النجاح ، أي ضرورة الربط الجدلي بين نجاح تجربة ما وبين العوامل الموضوعية والذاتية التي جعلت ذلك النجاح أمرا ممكنا، فنعود إلى الذات عودة مظفرة لا لإسقاط تجربة بعينها على واقعنا التربوي، وإنما من أجل التفكير في الصيغ الأكثر نجاعة في بلورة تجربة يحكمها منطق ما ، ليس بالضرورة أن يكون منطق المنفتح عليه في تفاصيله وجزئياته نظرا لاختلاف خصوصيات المجتمعات، وإنما منطق حذر يأخذ بعين الاعتبار ما يميز المجتمعات عن بعضها ، وما يشكل قاسما مشتركا بينها، أي بين المنفتح والمنفتح عليه، منطق تحكمه قناعة أساسية مفادها أن النجاح والفشل يكونان بمقدار تفاعل التربوي بالعوامل والعناصر الداعمة والمساندة داخل المجتمع ، وبمعنى تشخيصي أدق: علاقة المؤسسة التعليمية بمحيطها الخاص والعام ، وتكون حصيلة انفتاحنا لا تكمن في مدى قدرتنا على استنساخ التجارب وإعادة إنتاجها في بيئتنا التربوية، وإنما في مدى قدرتنا على التقاط العلاقة المصيرية بين ما يجري داخل جدران المدرسة وما يمور خارج أسوارها، أي محيطها القريب والبعيد، وتكون خلاصة الانفتاح بعد كل ذلك هي الاقتناع بأن قضايا المدرسة ليست شأنا خاصا يمكن حصره داخل الدائرة الضيقة للمعنيين والمتخصصين، وإنما هي شأن عام وأولوية أساسية لدى المحليين والمركزيين بالمعنى الحقيقي لأولوية الأولويات وليست مجرد شعار للاستهلاك.
إنه انفتاح مزدوج يشكل الإطار النظري الذي يوجهنا في انفتاحنا على الذات من حيث استثمار ما هو إيجابي لتناسبه مع خصوصياتنا ، والتصدي لمكامن الضعف لمواجهتها قصد تحويلها إلى مواطن قوة .أي مكامن الضعف الكامنة في المحيط والتي يقوي انفتاحنا الحواري على الآخرين عزيمتنا وإرادتنا ومسؤوليتنا في الاضطلاع كل من موقعه بمهمة التحويل هذه، تحويل المحيط من محيط عائق سلبي منغلق إلى محيط داعم فاعل مساند للمؤسسة التعليمية خاصة وللشأن التربوي بصفة عامة. إنه انفتاح مؤسس إذن ، يوجهه تصور يجد إطاره النظري في تلك العلاقة التفاعلية التي تتبادل ضمنها النظرية والتجربة النصح والإرشاد باستمرار. تصور تنير فيه النطرية التجربة وتوجهها، وتعمل فيه التجربة على تطوير النظرية من خلال التصحيح والتعديل ولم لا النفي والإلغاء والتجاوز، انفتاح يستمد مشروعيته من تصور عقلاني معاصر يعلي من شأن النظرية دون أن يغفل أو يقلل أو يلغي دور التجربة، وهو ما يفيده الانفتاح المزدوج من الأسفل ومن الأعلى، انفتاح على الواقع بكل تداخلاته ، وانفتاح على المرجعيات والنظريات التربوية أو تجارب الآخرين للتعامل معها في ضوء تساؤلات الواقع وانتظاراته وما أكثرها. يفيدنا الانفتاح على الغير في إغناء تصوراتنا التي نقرأ بها واقعنا، ويفيدنا الانفتاح على الذات في الوقوف لوضع اليد على تجليات خصوصية لن تستقيم عملية تدبيرها إلا عن طريق الاجتهاد والإبداع والابتكار بعيدا عن كل إسقاط أو نمذجة أو تنميط. وإن إطارا من هذا القبيل أقدر أن يتم ضمنه تجاوز كل طرح أحادي حول الأولوية أو الأسبقية : هل هي للانفتاح من الأعلى أم من الأسفل، هل على المرجعيات والنظريات أم على واقع الذات وما يحكمها من إكراهات؟ وإحلال طرح بديل تفاعلي يكون فيه الانفتاح صاعدا ونازلا في الآن ذاته، نقرأ الواقع بتأني ونصغي لكل ما ينطق به بحذر، ثم ننفتح على ضوء ما استخلصناه بفعل هذه القراءة المتأنية وذلك الإصغاء الحذر من تساؤلات وانتظارات: أو قل ننفتح على الغير في ضوء تساؤلات واقع الذات ،فنعود إلى الواقع للفعل فيه عبر تقديم إجابات بكامل الحيطة والحذر، كي لا تصبح تلك الإجابات غريبة عن تساؤلات الواقع، وكي لا تبقى القطيعة بين الأسئلة التي تبقى معلقة وتتعقد يوما بعد يوم، وبين أجوبة يهدر من أجلها الكثير من الجهد والإمكانات والطاقات، إلا أنها تذهب سدى إذ يتعذر بفعل هذه القطيعة حصول التلاقح المنشود بين التساؤلات والانتظارات، وبين الأجوبة الغريبة الغير منسجمة مع التساؤلات ، ومن تم يعيش الدرس والبرنامج والكتاب والمدرس غربة واغترابا .
وإن من شأن هذا الانفتاح الحواري التفاعلي المزدوج أن يتيح إمكانية الوقوف على مقومات الذات و مواطن القوة فيها، وكذا على معيقاتها ومكامن الضعف فيها و من ثمة إمكانية استثمار وتوظيف مواطن القوة استثمارا إيجابيا خلاقا ، والعمل على تحويل تلك المعيقات إلى مواطن للتفكير والتأمل في أفق تدبيرها التدبير الممكن من أجل تطويقها أو الحد من آفاتها على الأقل.
وإن أبرز مثال بخصوص استثمار مواطن القوة، هو العودة إلى إعادة الاعتبار إلى المدرسة كقطب رحى العملية التعليمية يتم داخلها كل شيء، يشعر المعلم والمتعلم معا أن الرهان الأول والأخير هو ما يتم إنجازه داخل الفصل الدراسي في المرحلة الراهنة على الأقل، في انتظار أن ينضج الوعي لدى صناع القرار بضرورة تهيء المحيط وإعداده وتحويله من محيط عائق إلى محيط داعم مساند، إذ من شأن إعادة الرهان على المدرسة كفاعل رئيسي في العملية ألتعليمية ان يخلٌص المعلمين والمتعلمين من ذلك الاعتقاد الواهم والرهان الخاسر، وهو إدماج المحيط بكل شطط وتعسف وتحت ضغط الانفتاح الانبهاري وإشراكه في مهمة لا قبل له بها إذ كيف لفاقد الشيء أن يعطيه، لقد آن الأوان لإنصاف متعلم أشركنا البيت في مهمة تعليمه دون وعي بأن في ذلك إجحافا كبيرا إذ كيف يجوز الرهان على مطالبة البيت بأداء خدمات تعليمية قد تتطلب منه جهدا يوميا وطيلة السنة الدراسية في ظل واقع مجتمعي تمس فيه الأمية نصف ساكنة هذا المجتمع . هاهنا تكمن أحد أهم أعطاب منظومة تربوية تراهن على ما لا يجوز الرهان عليه ، وها هنا تكمن أحد أهم مظاهر الخصوصية التي لا تقبل أي إسقاط انبهاري.
وإن أبرز مثال أيضا بصدد تحويل المعوقات إلى مواطن للتفكير في أفق تدبيرها ، هو التدخل الاستعجالي من أجل البحث عن الصيغ القانونية الملزمة للفاعلين المركزيين والمحليين و للمؤسسات والفضاءات التي يفترض أن تشكل معينات داعمة للمدرسة ، وإجبارها على الارتقاء بوعيها إلى مستوى المشاغل الكبرى للوطن وأن أكبر هم ينبغي أن تضطلع به هو الهم التعليمي التربوي إن هي أرادت أن تكون منسجمة مع روح عصرها .
عبد الحق الحاج خليفة