بقلم: صالح أيت خزانة
سيبقى هذا الموسم الدراسي عالقا في الأذهان أبَدَ الدهر. فقد شكلت بوازغه الأولى استثناء غير مسبوق في تاريخ الدخول المدرسي عبر ما عِشناهُ، على الأقل في حياتنا التعليمية التي عقلنا فيها انطلاقاتٍ دراسيةً متميزةً على مدى سنوات من الدراسة والعمل في رحاب المدرسة العمومية. فما سبق لنا أن شهِدنا على عام بلغت فيه اللامبالاة هذا المدى الصارخ الذي وصل إلى حدِّ عدم الإشارة إلى هذا القطاع أو مجرد تحريك النظر إليه، قبل الفكر، في الخطاب الرسمي، ونحن في عِزِّ تنزيل إصلاح اجتمع حوله المغاربة بكل فئاتهم، وتداولت حوله الأمة، وأُسِّست من أجله هيئات، ومجالس، وأقْعَدَه من يهمهم الأمر مَقْعَد السَّبْق في الاهتمام. فلم نلقَ من كل حراس المنظومة سوى اللامبالاة، وعدم الاكتراث، ليمر الدخول المدرسي لهذا العام ببرود غير مفهوم، وكأن عاصفة من القرارات اللاشعيبة قد تعِنُّ في الأفق، أو خَطْبٍ مَا قد يَحِيق بساحة المدرسة العمومية فيُحيلها إلى خبر كان.
نعم، لم يلبث هذا الارتباك الذي ولدته قرارات طبعها الكثير من الاستعجال وغير قليل من اللامبالاة، ليمر على من يفهمون ما بين السطور، دون أن ترتاب قلوبهم من نزول قرارات قد تعصف بحقوق، وتأتي على مكتسبات من القواعد؛ حتى نزل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي (الهيأة الاستشارية فحسبُ! "الفصل 168 من الدستور") بقراره/ رأيه حول مجانية التعليم (فرض "رسوم" على التعليم ما بعد الإلزامي)، ليعيد النقاش إلى الواجهة، ويرفع من حدة الاحتجاج على واقع تعليمي بلغ الحضيض، ليحيي النقاش العمومي من جديد، ويتداول حوله المتعلمون وغير المتعلمين، بعد ان امتد القرار/الرأي إلى جيوب المغاربة لينتزع منها، إن صودق عليه، من قبل الهيئات التي لا تمثل إلا نفسها، "رسوما"، قد تتحول إلى "مقابل"، ثم إلى شرط في الولوج، ليتحول التعليم العمومي، الذي ناضل من أجل مجانيته الآباء، إلى صَدَفَة مُحَصَّنة و"مُخَصَّصَة" لا يَلِجُها إلا من يدفع!.
إنها الخطة التي أسس لها البرنامج الاستعجالي/ المخطط الاستراتيجي، بعد دراسة الوضع التعليمي والتربوي الذي عرفه المغرب بداية الألفية الثالثة، تزامنا مع تعثر إنزال مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حينما طرح صناع القرار التربوي، آنذاك، ومعهم صناع السياسات العمومية المكبلين بإملاءات وشروط المؤسسات المانحة (توصيات/ إلزامات البنك الدولي)، السؤال المؤرق: "كيف السبيل إلى التخلص من العبء المالي الضخم لهذا القطاع مع تبويئه المكانة اللائقة في السوق التربوي الوطني والعربي؟".
فكان الجواب، تقريرا مفصلا خطيرا حول الوضع التعليمي بالمغرب، ضمنه مكتب دراسات أجنبي أهم الأسباب الثاوية خلف هذا الاهتراء المخيف الذي طال الفِناء التعليمي /التربوي الوطني، وسبل العلاج الممكنة لإنعاشه و"إنعاش" الميزانية العامة للدولة. حيث حدد وصفة العلاج في نقطة وحيدة وفريدة وهي : "التخلص منه" ببيعه للخواص وفق شروط تفضيلية!! . (1)
فلم يكن من السهل على السلطات التربوية أن تعرض هذا التقرير التفصيلي الخطير على العموم، وإن اقتنعت بمضامينه، واستأنست بحلوله ومقترحاته، فكان لا بد من صياغة تقرير "مقبول" وغير مستفز، يحصر الإصلاح في الواجهة، ويؤسس للأهداف البعيدة والاستراتيجية للإصلاح، وعلى رأسها خوصصة التعليم العمومي، في دهاليز العمل المؤسسي، ومن داخل المجالس والهيئات التعليمية، التي ظاهرها الاستقلالية، وباطنها الارتباط بإملاءات السياسات العمومية، التي ظلت تجعل من الهاجس المالي شغلها الأساس، في حين لم يشكل الهاجس التربوي، في كل الإصلاحات التي تتالت على المنظومة التربوية، إلا الواجهة التي ظلت تحاور بها "زبناء" المنظومة.
ومن أوضح ما جاء في هذا البرنامج مما يؤسس لهذه "الرؤية":
- "... تدخل الدولة الحاسم في ضمان التعليم الأولي (في العالم القروي) بشراكة مع الجماعات المحلية، فقط لعدم جاذبية هذه المناطق بالنسبة للمتدخلين من الخواص " أما " الوسط الحضري : الذي يتيح إمكانيات الحصول على مردودية أكبر للمستثمرين سيعتمد تطوير التعليم الأولي بالأساس على المتدخلين من الخواص، ولهذه الغاية سيتم اتخاذ العديد من إجراءات الدعم والتحفيز، قصد تطوير العرض التربوي الخصوصي في التعليم الأولي " (ص 13).
- "...يتعين توفير الموارد المالية الضرورية واستدامتها عبر تنويع مواردها ووضع آلية للتمويل اللازم.."( ص 78).
- "تخفيف الضغط على الميزانية يظل رهينا بتفعيل دعامتين: اللجوء إلى مكونات المجتمع عبر إحداث صندوق الدعم، تشجيع تنمية العرض التربوي الخصوصي"( ص: 79).
- "النهوض بالعرض التربوي الخصوصي بغية التخفيف من العبء المالي للدولة في تمويل المنظومة " (ص:80 ).
- " إقرار تدابير تحفيزية تمكن من تسهيل استثمار الخواص في قطاع التعليم (العمومي)...وتفويض تدبير مؤسسات عمومية قائمة : تفويت البنيات والتجهيزات وإلحاق الأطر التربوية(العاملة بالقطاع العمومي) بالتعليم الخاص، وتقديم إعانات محتملة لتسيير مؤسساته حسب التعريفة المتبناة في كل مؤسسة ".(ص:83).
- " تطوير نموذج جديد ومتكامل للعرض التربوي الخاص، ينتظم حول متدخلين خواص، من حجم كبير، باستطاعتهم تغطية مجموع التراب الوطني، ويشتغلون في مجموعات مدرسية معترف بقيمتها (...) ويتم القيام بدراسة معمقة لأجل التطبيق العملي لهذا النموذج" (ص:83).
فهذا ليس سوى غيض من فيض ما ورد في هذا البرنامج، وقبله الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي سبق الجدال الحالي حول إلغاء مجانية التعليم في التعليميْن التأهيلي والعالي بعدة سنوات، والذي سبق أن تحدث- أقصد هذا البرنامج- عن " تنويع موارد التمويل"، دون تفصيل، قبل حديث الرؤية الاستراتيجية 15/30 عنه (الرافعة 15 المادة 95). فهو قرار قديم جاء به الميثاق الوطني للتربية والتكوين عملا بـ"نصيحة" البنك الدولي للمغرب في تقريره حول: (التربية والتكوين في القرن 21 -المملكة المغربية-، لسنة: 1995): حينما أكد على ضرورة " تقييم وقع إدخال مصاريف التمدرس في التعليم الثانوي العمومي على المالية العامة، وذلك عن طريق إحداث مصاريف التمدرس في قطاع التعليم الثانوي العام، (...) أما فيما يخص التعليم العالي العام فيجب الحصول على مصاريف التمدرس لتغطية 20 في المائة إلى 25 في المائة من التكاليف....." وهي إملاءات واضحة، وبصيغة إلزامية صارخة، لرفع اليد عن تمويل التعليم العمومي.
ولا زالت ماكينة إعداد مخرجات، لتوصيات "الميثاق" ولهذا المخطط الاستراتيجي/التصحيحي، تعمل في الخفاء، بين صناع التربية وصناع السياسة، بين هاجس الإصلاح التربوي وهاجس كلفة المنظومة.
فليس مستغربا، مثلا، أن نقرأ في الصفحة 55 من البرنامج الاستعجالي:" وسوف تتم مراجعة أشكال التوظيف، وفق نظام تعاقدي على صعيد الجهة، و في الصفحة 61 "إن توظيف الأطر التربوية سيتم على الصعيد الجهوي على أساس التعاقد"، وتمر كل هذه السنوات ليتم اليوم إخراج هذا المقترح إلى حيز الوجود عبر مباراة التوظيف التعاقدي التي عرفتها، مؤخرا، مختلف الأكاديميات، بعد موسم "استُنْزِفت" فيه الموارد البشرية بشكل خطير، وكأن الأمر مقصود لتسهيل تنزيل هذه المقاربة المرفوضة، حتى نصبح أمام "بلوكاج" على مستوى الموارد البشرية، نلتمس الحلول للخروج منه في مرفوضات قاومناها ذات زمان، وأصبحت اليوم حلولا لا مفر منها!!.
فكذلك لن نستغرب، إطلاقا، إذا أصبحت خوصصة قطاع التعليم أمرا واقعا، تنظمه مراسيم، وتؤطره قوانين؛ فنشهد على تهافت المؤسسات الخاصة، والمقاولات، على المدرسة العمومية لتستثمر فيها بمباركة ودعم من الدولة عبر الإعفاء الضريبي، وتفويت العقارات، والتجهيزات، والموارد البشرية المُكَوَّنة والمتعاقدة،... كما ورد في الفقرة أعلاه .
فالبرنامج الاستعجالي/ المخطط الاستراتيجي، لم ينته وإن توقفت بعض مشاريعه، ولن ينتهي حتى يعيد بناء المنظومة على أسس تكفل تفويت المدرسة العمومية إلى الخواص، وإلغاء خدماتها العمومية المجانية، ورفع الدولة يدها عنها، وتخليصها من هذا الهاجس المؤرق "غير المنتج"! الذي يستنزف ماليتها، ويثقل كاهلها، ويُحْرِج تدبيرها للقطاع أمام العالم !!.
فما الرؤية الاستراتيجية 15/30، سوى الامتداد الطبيعي، والأفق الإجرائي، للمشاريع المعطلة للبرنامج الاستعجالي/الاستراتيجي، والذي جاء، بدوره، من أجل تصحيح الاختلالات العميقة التي عرفها تنزيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، خصوصا في شقه المتعلق بـ"تنويع مصادر تمويل المنظومة"، في أفق التخلص من تكلفتها الثقيلة على موازنة الدولة.
نعم، سيتطلب الأمر سنوات من التدبير البطيء، والعمل المؤسس للوصول إلى هذا المبتغى، وربما سيستنفذ عمر "الرؤية الاستراتيجية" أو أكثر، ولكن سيبقى السعي نحو خوصصة هذا القطاع، أو جزء منه، هدفا استراتيجيا لا مفر منه. وهي الحقيقة التي ألمح إليها المجلس الاعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في "توضيحه" حول المجانية حينما أكد على ضرورة :" اعتماد التدرج في الإقرار والتطبيق، بموازاة مع التقدم في تفعيل مقتضيات الإصلاح".
فهذه رؤية استراتيجية، تؤسس للمدى البعيد، وتراكم، على المدَيَيْن القريب والمتوسط، إجراءاتٍ وتدابيرَ تؤهل المؤسسة التربوية العمومية(2) لتصبح صالحة للبيع لـ" متدخلين خواص، من حجم كبير، باستطاعتهم تغطية مجموع التراب الوطني" (ص:83) تماما كما بيعت مؤسسات عمومية كبرى، أو جزء منها، في مزاد الخوصصة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
فاليوم مع المصادقة على فرض رسوم على الأسر "الميسورة"!! في التعليم ما بعد الإلزامي، وغدا تفويت القطاع إلى الخواص بعد أن تتحقق القابلية المجتمعية لذلك. تماما كما مُرِّرَت مرفوضات مجتمعية كثيرة، آخرها التوظيف بالعقدة!!
دمتم على وطن..!!
-----------------
(1) راجع مقالنا :" خوصصة قطاع التعليم، رهان استراتيجي للبرنامج الاستعجالي" مارس 2011.
(2) عوضت الوثيقة المعتمدة لـ"لرؤية" الحديث عن المدرسة العمومية، بالحديث عن المدرسية المغربية، في عموم متنها وصفحاتها (الصفحات:7-9-10-16-23-24-28-33-58-59-62-66-70-72-75)، لما لهذه الصفة (أقصد: العمومية) من حمولة تحيل على كل معاني المجانية، والإلزامية، وتكفُّل الدولة، وهو ما يتنافى والأهداف البعيدة للإصلاح الذي تؤسس له هذه "الرؤية".