عبد اللطيف بوعبدلاوي
من المسلّم به أن المدرسة ليست نظاما اجتماعيا مغلقا ومنعزلا عن الأنظمة الاجتماعية الأخرى وغير متفاعل معها، ولكنها نسق مفتوح يتبادل بعناصره ومكوناته التأثير والتأثر مع مكونات المجتمع الأخرى، وتنشأ بينها جدلية قائمة على تبادل الفعل والانفعال في ذات الوقت.
ومن ثم، فإن النظر الموضوعي والنقد المنصف للمدرسة وأدائها وأدوارها ومؤسساتها ينبغي أن يكون في إطار النظر الأشمل والنقد الأسبق للمجتمع ونظمه ومؤسساته وسياساته واختياراته...
وهذا الكلام لا نرو م من ورائه الفرار من تحميل المنظومة التعليمية مسؤولياتها التاريخية التي عليها أن تنهض بها وأن تؤدي متطلباتها، وأن تكون مستعدة للمساءلة وتقديم الحساب بشأنها، ولكننا نهدف به إلى وضع الأمور في نصابها، وجعل النقد الموجه إلى المنظومة التعليمية نقدا منهجيا وبناء يستحضر الشروط الموضوعية والظروف المحيطة التي تشتغل في إطارها.
ذلك أننا نجد في بعض الأحيان من يريد أن يحمل المدرسة كل إخفاقات المجتمع، ويضع على عاتقها كل الأوزار السياسية والاقتصادية والثقافية، كأن هذه المدرسة سابقة في وجودها على وجود المجتمع، وكأنها هي العامل الوحيد المتحكم في التحولات المجتمعية المعقدة والمتعددة الأبعاد والأوجه.
ومثل هذا الكلام النقدي فيه كثير من التجني على المدرسة وتقدير مبالغ فيه لأدوارها وإمكاناتها، وتجاهل لسلطة المجتمع عليها وتأثيره فيها.
إن المنظومة التعليمية وما تعيشه من مشكلات وإخفاقات وتحديات هي صورة معبرة عن الصورة الأكبر وهي صورة المجتمع، وعند تدقيق النظر وتوسيع زاوية الرؤية سنجد أن أغلب الملاحظات النقدية التي تؤخذ على هذه المنظومة، تؤخذ بصورة أوضح وأشد على المجتمع الذي تشتغل في إطاره.
وسنلقي الضوء في ما يلي على بعض المشكلات الواقعية التي توضح هذه القضية وتجلّيها:
إننا كثيرا ما نتحدث عن التردد والارتجالية اللذين يطبعان الاختيارات البيداغوجية، وعدم القدرة على الحسم في التوجهات الاستراتيجية من قبل القائمين على الشأن التعليمي، وضعف النجاعة في تنزيل مضامين الوثائق التربوية المعتمدة، وننسى أن هذه المشكلة هي عيّنة مصغّرة لمشكلة أكبر تتعلق بما يجري في المؤسسات المؤثرة الكبرى في المجتمع، حيث يقف صانعو القرار والمسؤولون عن وضع السياسات العامة موقفا متذبذبا من القضايا الأساسية التي تحدد طبيعة النموذج المجتمعي المنشود، من قبيل قضايا الهوية والانتماء وتمكين اللغة العربية، وقضايا الديمقراطية والحداثة والانفتاح...الخ وفي الغالب تقدم أجوبة هلامية متذبذبة تحاول إرضاء مختلف الاتجاهات والتيارات للحفاظ على توازنات اجتماعية وسياسية وقتية، ولا يحاول هؤلاء المسؤولون اقتحام عقبة تأسيس حوار تاريخي بين مختلف أطياف المجتمع وفئاته يكون الهدف منه بلورة إجابات تاريخية عن الأسئلة الكبرى الملحة التي تؤرق بال الأجيال الحالية، والخلوص إلى توافق مجتمعي تاريخي حول طبيعة النموذج المجتمعي الذي ننشده ونرتضيه، وتحديد أسسه ومعالمه بوضوح وحسم بعيدا عن الصيغ الترقيعية المترددة.
والواقع أننا باختيارنا لسياسة الأجوبة المترددة نعمل على تكريس المعضلات المجتمعية، وكل ما هنالك أننا بهذا النمط من التفكير والتدبير نؤجّل انفجار الأزمات المستحكمة إلى المستقبل، والنتيجة الطبيعية لهذا المسلك هي اعتماد صيغة هجينة لنموذج مجتمعي تتجاور فيه المتناقضات وتتساكن إلى حين.
وحتى ننقل كلامنا من الطابع العمومي إلى شيء من التفصيل والتخصيص سنورد مثالا موضحا ومعبِرا عن القضية التي نحن بصددها:
يتعلق هذا المثال بقضية التعريب التي كانت أحد المبادئ الأربعة التي اعتمدت بعد الاستقلال في ميدان التربية والتعليم، ولو أردنا دراسة ما حدث بشأنها من اضطراب وارتجال، فسنجد أن الإجابة الشافية عن هذه المشكلة لن تكون في أرشيف الإدارة المشرفة على تدبير الشأن التعليمي، وإن عثرنا على شيء من ذلك فسيكون فرعا من أصل، والأصل هنا هو الدولة بمسؤوليها وسياساتها العامة وقراراتها المصيرية.
لقد درس جيل السبعينيات وما تلاه المواد العلمية باللغة العربية بناء على قرار - اعتبر تاريخيا في حينه – يقضي باعتماد خطة لتعريب التعليم انسجاما مع التوجهات الكبرى المعلنة في هذا المجال، لكن هذه الخطة ستتعثّر وتتوقّف عند بلوغها المرحلة الجامعية، وصار واجبا على من يريد إكمال دراسته للمواد العلمية بالجامعة أو المعاهد العليا أن يتقن اللغة الفرنسية، ولجأت الوزارة إلى حلول ترقيعية من قبيل إدراج مادة الترجمة في البرنامج الدراسي.
ثم اتضح أن الموقف الذي اعتبر تاريخيا في حينه لم يكن سوى قرار ارتجالي متذبذب سرعان ما تم العدول عن المضي فيه إلى نهاية المسار، وكانت النتيجة هي تجاور اختيارين مختلفين في سياق تعليمي واحد، فالتعريب معتمد في المرحلة الابتدائية والثانوية، والفرنسة معتمدة في التعليم العالي، وهذه تركيبة هجينة وجواب متذبذب عن قضية مؤرّقة هي قضية الحسم في اللغة المعتمدة، والهدف من ذلك محاولة إرضاء كل الأطراف المختلفة بشأنها، المنادين بالتعريب والتيارات الوطنية التي يمثّلونها من جهة، والمدافعين عن مكانة اللغة الفرنسية والدوائر الفرنكفونية التي يعبّرون عنها من جهة ثانية.
وسيكون من السذاجة أن نقول إن القرارات التي اتخذت بخصوص قضية التعريب خرجت من مكاتب الوزارة المسؤولة عن التربية والتعليم بمعزل عن السياسات العامة للدولة، وإن وزير التربية الوطنية لهذه الحقبة هو الذي اختار المضي في هذا المسار المتذبذب دون علم القائمين على أمر الدولة وموافقتهم.
إن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الموضع: هل المسؤولية بخصوص هذه المشكلة المزمنة تتحمّلها المنظومة التعليمية بأطرها ومسؤوليها، أم هي في عمقها مسؤولية مجتمع ودولة لا يريدان أن يحسما مواقفهما واختياراتهما؟
بل لا نعدو الموضوعية إذا قلنا إن المنظومة التعليمية – من خلال هذا المثال – ضحيّة ومجنيّ عليها، بسبب غياب الاختيارات والسياسات المجتمعية الحاسمة والواضحة.