فضاءات الحياة المدرسية هي تلك الفضاءات المختلفة التي تسخر لتنشئة المتعلم تنشئة متكاملة تحيط بكل أبعاد ومستويات شخصيته. ويمكن اعتبار هذه الفضاءات بمثابة علة أساسية من العلل الوجودية للحياة المدرسية؛ إذ لا يمكن أن نتصور، منطقا، حياة مدرسية في غياب الإطار المكاني الملائم الذي يحتضنها.
وقد ميز دليل الحياة المدرسية، انطلاقا من ثنائية الداخل والخارج، بين صنفين من هذه الفضاءات: الأول هو فضاءات المؤسسة، والثاني هو الفضاءات الخارجية؛ كما حدد المرافق التي تندرج في كل فضاء، مبينا الوظيفة التي يضطلع بها كل مرفق، والمواصفات التي ينبغي أن تتوافر له حتى تتحقق الأهداف المتوخاة من تدبير أنشطة الحياة المدرسية، والتدابير التي من شأنها أن تيسر استغلالها استغلالا عقلانيا فعالا ومجديا.
ومن الواضح من خلال مضامين الصفحات الخمس التي أفردها الدليل لفضاءات الحياة المدرسية أنه يتحدث عن الممكن المطلق، أي عن الصورة النموذجية التي من المفترض أن تكون عليها هذه الفضاءات. لكن ماذا عن صورة هذه الفضاءات في الواقع؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل، تجدر الإشارة إلى أننا سنصرف الاهتمام كله إلى فضاءات المؤسسة التعليمية، أي تلك الفضاءات التي تدخل في نطاقها، متغاضين عن المحيط الخارجي، ومدى توفيره للفضاءات الحافزة على الانفتاح، والمساعدة على الامتداد، وتوسيع مجال الحياة المدرسية، كالمكتبات العمومية، والمسارح ودور الشباب، والمعاهد، ومراكز التكوين ، والمتاحف ...إلخ
من المعلوم أن فضاءات المؤسسة التعليمية تتباين لتباين الأطوار التعليمية، والمجالات، والبيئات، والمحيط... لكن الملاحظ عموما هو أن صورة الفضاءات في المدرسة العمومية تنطق بتفاوت صارخ، ويمكن حصر مستويات هذا التفاوت في توفر الفضاء، وحالته، وتوظيفه.
لا شك أن كثيرا من المؤسسات التعليمية تتوفر على جل المرافق الداخلية المدرجة في قائمة فضاءات المؤسسة كما حددها الدليل، حيث نجد فيها قاعات للتعليم العام، وأخرى للتعليم المختص، وساحة، ومكاتب إدارية، ومكتبة، وقاعة متعددة الوسائط، وقاعة الصلاة، وقاعة متعددة الاختصاصات، ومرافق صحية، وملاعب رياضية، وما إلى ذلك من المرافق الضرورية، وفي المقابل تفتقر مؤسسات أخرى إلى هذا المرفق أو ذاك، مما يؤثر لا محالة على أدوار الحياة المدرسية، وطابعها التكاملي، وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن غياب مستودعات أو مرافق صحية خاصة بالإناث قد يكون سببا كافيا لانقطاع بعضهن عن الدراسة؛ أما الوجه الصارخ للمفارقة فيتجلى في أن كثيرا من المؤسسات، وفي المجال القروي على وجه الخصوص، تنعدم فيها كثيرمن المرافق، بل قد تختزل فضاءات الحياة المدرسية المتعددة والرحبة في حجرات دراسية ضيقة بائسة، والأمر والأدهى من ذلك أن بعض حجرات الدراسة، أو ما يشبه الحجرات قد تم هجرها، فانطفأت في أرجائها شمعة الحياة المدرسية، وصارت بعد ذلك أطلالا دارسة بالية.
بيد أنه لا يكفي أن يوجد المرفق داخل فضاء المدرسة، وعلى أي حال كانت، بل المطلوب أن يوجد على الشكل اللائق، وبالمواصفات اللازمة التي تجعل منه فعلا مرفقا وظيفيا مريحا قابلا للاستغلال ومنتفعا بوجوده، إلا أن المرافق المدرسية تتفاوت دراجاتها إلى أبعد الحدود، وهي تصنف، في الغالب، إلى مرافق جيدة، أو ناقصة الجودة، أو هشة مهترئة.
إن حالة المرافق عامل بالغ التأثير على أصعدة كثيرة، فشتان، مثلا، بين ساحة ملأى بالأتربة والحجر، ساحة لا تختلف في شيء عن مسلك قروي، وبين ساحة مبلطة، تتخللها الممرات، وتزينها المجالات المشجرة المعشوشبة، وتتوفر فيها الكراسي الثابتة، والسقائف التي يحتمي بها التلاميذ من أشعة الشمس وزخات المطر، وشتان بين حجرة دراسية فاخرة مبهجة، وأخرى مهملة متآكلة بدائية، وشتان وشتان...
إن المرافق المدرسية، وكغيرها من المرافق والأشياء، معرضة بطبيعة الحال لتضاؤل جودتها بفعل عوامل التقادم والبلى وقوة الاستعمال، وعليه، كان من الضروري تعهدها بالتأهيل والإصلاح والتجديد كلما دعت الضرورة إلى ذلك، كما ينبغي العناية بنظافتها ومراقبتها وصيانتها بشكل منتظم. وهذه مسؤولية مشتركة ينبغي أن يتحملها الجميع، تتحملها الجهات الوصية على القطاع، وجميع العاملين بالمؤسسة، والشركاء والمتعاونون، ويتحملها أيضا التلميذ، ولأن هذا الأخير هو المستفيد المحوري من خدمات المرافق الواقعة في فضاء مؤسسته التعليمية، كان لزاما أن يكون أول من يحرص على الحفاظ عليها، وفعلا يشهد واقع الحال في كثير من المؤسسات على انخراط التلاميذ الطوعي والإيجابي في العناية بفضاءات مؤسستهم، بل ومساهمتهم الوازنة في الحفاظ عليها وتجميلها، لإحساسهم بالانتماء إليها، ووعيهم بوجوب التحلي بالسلوك المواطن، بيد أن هذا لا يمنع من وجود فئة أخرى تفرغ عنفها على هذه المرافق، فتعيث فيها تخريبا وإتلافا وتشويها.
ومن المفارقات التي تدعو إلى الاستغراب وتبعث على الأسى والأسف أن يوجد المرفق وفي حالة رفيعة من الجودة، لكنه، ولسبب من الأسباب، نجده معطلا موقوف التنفيذ. فهل من المعقول، مثلا، أن تجهز قاعة بكل ما يلزم من التجهيزات، وتسمى قاعة متعددة الوسائط، لتوصد بابها فتصير قاعة عديمة الدور؟ وهل من المقبول أن تكدس رفوف الخزانة بصنوف الكتب، لتظل مغلقة دون أن تمتد إليها يد قارئ واحد لتتصفحها؟ وأيا كان السبب في حالة العطالة التي قد توجد عليها بعض المرافق، يبقى غير مقبول؛ لأن المرفق وجد أصلا ليكون وظيفيا.
وبناء على ما تقدم، يمكن القول بأن الاهتمام بتوفير المرافق والتجهيزات في المؤسسات التعليمية بالكم والنوع، والعناية بتفعيل دورها، وحسن تدبيرها، من الشروط الضرورية المساعدة على التأطير والضبط والتنظيم والتنشيط بمختلف مستوياته: التربوي والثقافي والبيئي والرياضي والاجتماعي والإعلامي، والمساهمة في جعل فضاءات المؤسسة التعليمية فضاءات مفعمة بالحياة، ونابضة بالفعل الإيجابي.
عبد الله زروال