حميد بن خيبش
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
لطالما حرك هذا البيت الشعري في نفوسنا دواعي الزهو والتبجيل لمهنة أوشكت أن تضارع جهد الرسل في تبليغ الدعوة.هذا ما فهمناه بداية ونحن نعيد قراءة البيت الشعري المثبت على جدار الفصل, والمكتوب بخط أنيق على قطعة ورق ملون. كان الظن يومها أن ما ينهله المعلم من مشكاة النبوة هو القداسة والاحترام ,والمثابرة في سبيل تنوير حوالك الجهل, ومد رقعة المعرفة لتبلغ منتهاها,فلا يبقى في الوطن بيت مدرأو وبر إلا وتسلل إليه شعاع النور لتستضيء به أفئدة الصغار ! لكن في غمرة الجهد اليومي ,وبعد رحلة مضنية تتباين فيها مسارات العطاء بين معلم وآخر, وتتراوح فيها ردود الفعل بين الإشادة و الجحود أو حتى اللامبالاة القاتلة,تنبعث في النفوس أسئلة سرعان ما تتحول إلى دوائر استفهام , تتسع وتتمدد لتثير الشكوك حول صحة فهمنا لما رمى إليه شوقي في الشطر الثاني من قولته تلك !
لم يكن شوقي معلما, ولم يطمح يوما للانتظام في سلك التربية والتعليم, وإنما اتفق له أن يتحدث في شؤون تعليمية دعته إليها عاطفته كأب له أبناء يتعلمون, ومواطن يتابع كل يوم مشهد صبية ذاهبين للمدرسة, وصديق يشاطر أصدقاءه من المعلمين بعض ما يقاسونه. تلك كانت شهادة الدكتور زكي مبارك وهو يستعرض آراء شوقي التعليمية في جملة من قصائده.إن ما أوعز للشاعر إذن بهذه الحمية ليس احتكاكه المباشر بجماعة الفصل, ولا الضغط النفسي المتولد عن الهوة المؤلمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون,وإنما عاطفة نبيلة تستحث المجتمع لصون المكانة الاعتبارية للمعلم , وتسييجها بما يلزم من مباديء الشرف والوجاهة .دعوة تصبح مثارا للتهكم في فترات انكماش القيم و نضوب الأخلاق!
يُبعث الرسل عادة لقوم انحرفوا عن الجادة ومستعدون للموت دفاعا عن وضع مختل, فيلقون من صنوف الأذى و التضييق ما تعجز النفس عن تحمله لولا ما اختصهم به الله من تأييد وعصمة.هنا مكمن السمو الذي امتازوا به عن سائر الخلق, أي الاستعداد لتحمل البلاء وبذل النفس والمال والأهل في سبيل التبليغ والهداية.وحين يُدني شوقي المعلم من منزلة النبوة فلا شك أنه يرمي الغرضين معا بسهم واحد, بمعنى أن المعلم ينال نصيبه من البلاء كما ينال حظه من الشرف.غير أن البلاء لم يعد وقفا على ما يلقاه في سبيل محو ظلمة الجهل, بل هو اليوم أنكى وأشد في ظل تأليب إعلامي بغيض يُحمل الغابة وزر غصن طائش, وينفث روح العداء داخل سياق تعليمي مثقل بهمومه الخاصة.
بيد أن ما لم ينتبه إليه شوقي ,حين أضفى مسحة دينية على المكانة الاعتبارية للمعلم ,هي الفروق الحادة بين صورة العالم وطالب العلم في الخطاب الديني وبين ما آل إليه دور المعلم في نظم التعليم الحديثة. فحسب تقرير المرصد العربي للتربية لسنة 2012 تُجمع الاستقصاءات الحديثة على تراجع هيبة المدرسة وتدني مكانة المدرسين ,فصورة المدرس في المجتمع أضحت أسوأ مما كانت عليه في السابق, أما صورته لذاته في بُعدها التربوي على الأقل فتتسم , إلا في النادر, بعدم القدرة على إكساب التلاميذ عددا من المهارات التي تساعد على انخراطهم في مجتمع المعرفة.ومما يزيد وضعهم صعوبة على المستويين المادي والمعنوي عدم رضاهم عن أنواع الدعم الذي توفره لهم الدولة خاصة ما يتعلق بالرواتب و الحوافز والهياكل التي تحمي حقوقهم .في حين تخص الدول ذات الأداء التعليمي العالي ( مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وفنلندا ) مُدرسيها بقدر كبير من الاحترام والاعتبار,وتوفير البيئة التعليمية المحفزة على استبقائهم في المهنة. ويخلص التقرير إلى وجوب المعالجة الفعالة لجملة من التحديات أهمها : جعل مهنة التعليم أكثر جاذبية وأكبر قدرة على منافسة المهن الأخرى التي تتطلب مؤهلات مماثلة ,كما يدعو إلى ضرورة تحسين صورة المدرس في المجتمع من خلال وسائل الإعلام والمجتمع المدني. إذن فاهتزاز صورة المدرس,والذي يبدو وثيق الصلة بانكماش القيم والأخلاق تحت وطأة المنظورالمادي للحياة و الوجود الإنساني, يتنافى مع الإيحاء بالعصمة ومهابة الجانب كما توميء بذلك أبيات شوقي, لأن المعلم اليوم أحوج ما يكون إلى مرافعة تخفف عن كاهله عبء تهم تٌلقى جزافا كلما لاحت بوادر أزمة اجتماعية أو ضمور أخلاقي.
إن ميل المجتمع إلى تحميل المعلم وحده وزر إكراهات تطوق المنظومة بأسرها, وحرص بعض وسائل الإعلام على تغذية هذا الميل من خلال الإمعان في تلويث وزرته كلما زل لسان أو قدم, يقتضي اليوم انكبابا جادا على إعادة تعريف أدواره بما يتناسب والمتغيرات المعرفية والاجتماعية والاقتصادية,وتمكينه من الآليات الضرورية لاستكمال بناء هويته المهنية ,خاصة آلية التكوين المستمر التي تضمن تكيفه الفعال مع الرهانات الجديدة, وآلية التحفيز المادي والمعنوي التي تكافئه نظير الأداء الجيد أو الأعباء الإضافية في المناطق الصعبة.
وفي انتظار إصلاحات جادة ومسؤولة تعيد للنسق التعليمي حيويته وفاعليته, يظل أنسب مأثور أدبي للشعور السائد اليوم لدى غالبية المعلمين هو قول الشاعر الصوفي عبد الغني النابلسي :
ما حيلة العبد والأقدار جارية عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في البحر مكتوفا وقال له إيـــاك إيـــاك أن تبـتل بالماء !