بقلم : مصطفى مزياني. أستاذ التعليم الابتدائي
من الأكيد أن منطلق مفهوم مشروع المؤسسة له منطقه الفلسفي العميق، ما دام تحقيق كل طموح إنساني يستوجب إقامة مشروع يتأسس على معطيات و شروط متموقعة في الحاضر، ليستشرف بلوغ غايات و نتائج ممتدة في المستقبل. بهذا الفهم أضحينا نربط كلمة " مشروع " بنعوت؛ شخصي، فكري، سياسي، تربوي... و قد نؤطر مفهوم المشروع ضمن مفاهيم مستجدة ننعتها بالرحالة و المسافرة و الجوالة..و بهذا النعت تستقر في تمثلاتنا بعض معاني التشكيك و الاتهام الموجهة إليه، ما دام في اعتقادنا أن ذلك بعيد عن زخم التربوي. إن انتقالات المفاهيم عبر مساحات و فضاءات مجالات و قطاعات مختلفة، عندما يكون أفقها بناء صروح نظرية توجه و تؤطر الفعلو الممارسة، تظل ذات مشروعية و مقبولية إبستمولوجية.
إن مشروع المؤسسة في سياقه التربوي، هو خيار منتهاه إحداث زوبعة تأتي على جملة من المفاهيم و التصورات التدبيرية و التربوية التي اعتلت عرش المؤسسة التعليمية لفترة غير هينة من الزمن، أبرزها الانفرادية و العشوائية و الانغلاق...ولعل دواعي و خلفيات التبني الرسمي لفكرة مشروع المؤسسة متعددة ومتنوعة، تمتد عبر خطوط يوازي فيها السياسي ما هو اجتماعي و ثقافي و تربوي، في اتجاه تصاعدي يروم التجديد و التطوير و التحديث.
فنجاح فكرة المشروع كرهان يتمفصل بخيار سياسة اللامركزية و اللاتمركز، يفترض توطين و إرساء شروط و معايير استقلالية حقيقية للمؤسسة التعليمية و منحها سلطات تدبيرية وازنة و واسعة، تمكن القيادة التربوية المحلية من آليات الاقتراح و التفكير و التدخل و اتخاذ القرار، و تسمح لها بإنماء قدرات الإبداع و التجديد و الابتكار.
هذا الرهان متصل أيضا في أحد الأبعاد الاجتماعية، بانفتاح المدرسة على محيطها. هذا الانفتاح ظل شعارا تردده مراسلات و مذكرات الوزارة الوصية، و أضحى مادة دسمة للنقاش في اللقاءات و الندوات، دون عناء إبداع الميكانيزمات الكفيلة بمواجهة الترددات و المقاومات البارزة في هذا الشأن، و دون الالتفات إلى الاستشكال الأساسي المتمثل في تحديد مدى قدرة و رغبة انفتاح المحيط على مدرسته. في هذا الاتجاه يقتضي الأمر مأسسة الوعي التربوي للفاعلين المحليين بشأن أهمية مد الجسور بين المؤسسات و التنظيمات المحلية كأرضية خصبة لإنبات فكرة المشروع.
و لا يستقيم التأسيس لفاعلية و فعالية المشروع في بعده التربوي دون إشاعة ثقافة تحمل بين ثناياها قيم الديمقراطية و المساواة و التسامح والمبادرة و المنافسة الشريفة... في وسط المجتمع المدرسي. إذ لا جرم أن مشروع المؤسسة عندما يستحضر معايير تدبيرية كالتشاركية و التقاسم و العمل بالنتائج... إنما يروم من خلال ذلك جعل المشروع إنتاجية و إبداعية محلية، يتحمل الجميع مسؤولية بلورتها و تنفيذها و تتبعها.
و غايات مشروع المؤسسة تربوية بإمتياز، ما دمنا نجعل منه مسارا ديناميا للفعل و الحركية باتجاه الارتقاء بالحياة المدرسية عموما، و الدفع بالفعل البيداغوجي في اتجاه تجويد التعلمات خصوصا. بهذا المعنى بالذات ينبغي جعل مجهوداتنا و تدخلاتنا تتمحور حول تدقيق متناهي لأسباب المشاكل و التعثرات، وفي الآن نفسه تحديد سبل التدارك و التجاوز .
إن ما يميز اللحظة التربوية في بلدنا العزيز هو تنزيل مشروع المؤسسة بصيغة مستجدة، تقوم على اعتماد منهجية خاصة في بلورته اصطبغت باسم EPAR. وهي منهجية تروم التبسيط و الوضوح كما تفيد الأدبيات و المذكرات في هذا الصدد. بيد أن الأمور تنفلت من قبضة أيدينا ما أن ننكب على صياغة المشروع اعتبارا لظروف و مميزات الواقع المحلي لمؤسساتنا التربوية.
مبتدأ منهجية EPAR في بلورة مشروع المؤسسة يدعو إلى تشخيص وضعية المؤسسة التعليمية بتحديد نقط القوة و التميز، إلى جانب رصد مجالات الضعف و العوز، بهدف تحديد أهم المشاكل و الصعوبات المرتبطة بالتعلمات، والتي يمكننا تخطيها و تجاوزها بإمكاناتنا المتوفرة. غير أن هذا التشخيص يصبح من باب السهل الممتنع، عندما لا نتوفر على عين فاحصة و مدققة، حيث يمسي الأساسي ثانويا، ويصير الهامشي أصليا.
هذه المنهجية في مرحلتها الثانية تؤكد على تحديد الأولويات، التي تصاغ في شكل أهداف نستوحيها من خلال مرحلة التشخيص، ومن المفروض أن تكون أهدافا قابلة للملاحظة و القياس، و في الآن نفسه متناغمة مع التوجهات و الغايات التربوية للوزارة الوصية. إن هذا الأمر ليس بالمستساغ كما يعتقد واضعوا المنهجية، فصياغة الأهداف بهذه الشروط يقتضي حنكة و مراسا تربويين، قد لا يكون حاصلا في مجموعات بلورة المشاريع. في هذا المضمار من المرغوب تكليف عناصر من الوسط المدرسي، يشهد لها بالكفاءة و الخبرة للقيام بهذه المهمة، مع ضرورة احترام مقترحات و آراء كل الفاعلين المحليين.
و من أبرز مراحل منهجية EPAR نجد مرحلة الأجرأة، التي تروم وضع مخطط تنفيذي للمشروع، و الذي يشمل سلسلة من الإجراءات و الأنشطة لتحقيق الأهداف المسطرة. غير ان الدعم المالي للمشروع يظل الهاجس الذي يؤرق فريق قيادة المشروع المحلي، ويضع رئيس المؤسسة فوق صفيح ساخن، منذ مرحلة تقدير مالية المشروع و طريقة تحصيلها، إلى مسؤولية تبرير صرفها و دخول متاهات توثيق المداخيل و المصاريف. و قد يكون الجواب سهلا عن هذا الإشكال بالإشارة إلى مهام جمعية دعم مدرسة النجاح، لكننا نعلم كممارسين و متتبعين للشأن التربوي أن هذه الجمعية لم تراكم تجارب و خبرات في هذا الصدد لاعتبارات لا يسمح المقام بسردها. لذا نرى أنه من الأرجح توسيع النقاش في هذا الجانب في إطار جماعات الممارسات المهنية.
تحديد كيفيات تقويم و مراقبة و تتبع مشروع المؤسسة، تعد مرحلة أخيرة في بلورته حسب منهجية EPAR. وهي مرحلة تستدعي وضع آليات للتقويم و التتبع، اعتمادا على مؤشرات متصلة بأهداف المشروع. إنها مرحلة تقتضي وضع جداول و شبكات و روائز تسمح بقياس مدى تحقق الأهداف في ارتباطها بسيرورة زمن المشروع، وتثير انتباهنا إلى أن المشروع مفتوح على تقلبات الواقع و الظروف المحلية للمؤسسة التعليمية، ما يجعل المشروع قابلا كل لحظة للتعديل و التصويب. هذه الخطوة تستوجب تدقيق آليات المتابعة و المراقبة و التضبيط، لاختبار مدى تحرك مؤشرات تحقيق أهداف المشروع.
أخيرا و ليس آخرا، نعتبر أن لفلسفة المشروع عمقها الإنساني، بما تمثله من طموح الأفراد و الجماعات في تغيير مصيرهم دائما نحو الأحسن و الأفضل، انطلاقا من شروط و ظروف الواقع نحو آفاق مستقبل منير و زاهر. و في ما يتعلق بمشروع المؤسسة، نؤكد على ضرورة تفادي اعتبار منهجية EPAR كمراحل منفصلة بعضها عن بعض، بل هي خطوات مترابطة و متماسكة، تشكل بنية متفاعلة تبتغي تحقيق أهداف المشروع. و هذا الأخير يبقى دائما قابلا للتقويم و التضبيط في علاقته بشروط وظروف الواقع المدرسي. لذا فإن بلورة مشروع المؤسسة باعتماد هذه المنهجية تعد فقط بداية لممارسات و إجراءات و تدخلات، نستهدف من وراءها الارتقاء بالتعلمات، و استشراف الجودة التربوية المبتغاة.