ليس غريبا أن تعلق وزارة التربية الوطنية فشل المنظومة التربوية على الأستاذ، لأن الإنسان بطبعه عندما يفشل فإنه لا يمكن أن ينسب الفشل إلى نفسه بل يبحث عن شماعة تلغي مسؤوليته، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فالأستاذ هو الحلقة الضعيفة التي يسهل تعليق الفشل عليها لأنه قبِل أن يكون كذلك وأضعف موقفه بصمته، وقبلت النقابات أن تقف إلى جانب الطرف الآخر فأضعفت هي الأخرى موقف الأستاذ وسمحت للوزارة أن تحمله المسؤولية في الشاردة والواردة.

لكن، إن قبلنا الطرح الذي تقدم به السيد الوزير، فإنه يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

ـ إذا كان هذا الأستاذ غير مؤهل، فمن المسؤول عن فشله؟ هل نزل إلى القسم من المريخ أم أنه تدرج في مدرسة تشرف عليها هذه الوزارة، ثم تخرج من مركز سمته الوزارة "مركز التكوين"؟. المحصلة إذن أن الوزارة هي المسؤولة عن هذا الفشل الافتراضي للأستاذ.

ـ عندما يزور المفتش الأستاذ في قسمه ويمنحه في البداية كفاءة مهنية تخول له التدريس، ثم يزوره بعد ذلك ويمنحه تقارير تفيد استمرار أهليته للتدريس وتطورها، فهناك أمر من أمرين: إما أن المفتشين يكذبون، أو أن الوزارة لا ثقة لها في المفتشين أيضا وهذا موضوع آخر.

ـ أما مسألة "الخرايف" التي اتُهم الأستاذ بأنه يدرسها للتلاميذ، فأقول بأن ما سماه السيد الوزير بالخرايف هو في الحقيقة برامج ومقررات وضعتها الدولة، وهي التي تتحمل مسؤوليتها، ولو وضعت الوزارة برامج حداثية بعيدة عن "الخرايف" لدرسها الأستاذ. والمحصلة إذن أن الأستاذ مجرد أداة لتفعيل برامج وضعتها الدولة، هو أداة على مستوى محتوى المقرر، وعلى مستوى مناهج التدريس أيضا.

إننا نتفق مبدئيا مع السيد الوزير أن ما تقدمه المدرسة المغربية هو مجموعة من "الخرايف"، لكن علينا أن نتساءل ما مصدر هذه ما معنى كلمة "الخرايف"؟ وما مصدرها؟.

إن مجموع ما يُدَرّس في المدرسة المغربية يقع معزولا عن الواقع ومقطوع الصلة به، هو فعلا مجموعة من "الخرايف" لأن الخريج بمجرد مغادرته للمنظومة يكتشف عجزه وعدم قدرته على الاندماج في محيطه السوسيوقتصادي، ويجد أنه يحمل حزمة من الأفكار النظرية التي لا يجد لها مجالا للتصريف والتفعيل والممارسة، ويدرك متأخرا أن ما يحمله من مساره التعليمي أصبح عائقا حقيقيا أمام اندماجه.

إن مصدر هذه "الخرايف" التي تحدث عنها السيد الوزير هو أن تعليمنا يعيش عزلة غريبة جدا، ومصدر هذه العزلة هو أن أحدا منا لم يستطع على امتداد أكثر من نصف قرن أن يقدم جوابا دقيقا ومقنعا عن الدور الذي تلعبه المدرسة في المجتمع المغربي، إن السؤال الذي لا زال قائما ولا زالت الإجابات عنه عائمة وزئبقية، هو: ما الغاية من فتح المدارس وتعليم الأجيال؟، هذا السؤال على بساطته يخفي تصورنا لإصلاح التعليم، وأتصور أن كل إصلاح للمنظومة التربوية لا يجب أن ينطلق من المدرسة، بل يجب أن ينطلق من محيطها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والديني...، بحيث نقوم بتجميع الأسئلة المراد الإجابة عنها، ونقوم بتشخيص دقيق لاحتياجاتنا في هذه المجالات، ثم نتوجه بهذه الأسئلة وهذه الاحتياجات إلى المدرسة فنصوغ البرامج والمناهج والمقررات بما يتناسب مع هذه الاحتياجات ومع هذه الأسئلة، ثم سيتحول التعليم تلقائيا إلى مؤثر حقيقي في باقي المجالات لأنه سيكون بمثابة إفراز لها، بل سيوفر لها الأجوبة والطاقات البشرية القادرة على تفعيل هذه الأجوبة.

أما ونحن نصلح التعليم في إطار بنية مغلقة فإن ما سنواجهه باستمرار هو هذه التشققات التي تخبرنا بأننا أضعنا الوقت والجهد والمال بلا طائل، إن إصلاح التعليم هو مشروع مجتمعي يجب أن نضبط فيه الخيط الناظم لمجموع القطاعات التي تؤثث المجتمع، إن الإصلاح لا يتم داخل القاعات المكيفة بل هو عمل ميداني بالأساس، نسائل من خلاله القطاع الاقتصادي فنحدد طبيعته وتوجهه وحاجاته التي ستوفرها المدرسة فيما بعد على شكل برامج ومقررات ومناهج، ونسائل من خلاله أيضا البعد الثقافي للمجتمع فنصوغ من خلاله مقررات تركز على القيم المشكلة لهوية المجتمع، وقس على ذلك المجالات الأخرى.

إن "الخريفة" الكبرى التي أغفلها السيد الوزير هي أن المدرسة المغربية تساهم من حيث لا تدري، أو قل من حيث لا تقصد، في خلق اللاتوازن داخل المجتمع، لأنها مدرسة محاصرة داخل الأقسام والمدرجات بدون امتداد، فشحن عقول الأجيال بأفكار لا سبيل إلى تحقيقها هو الآلة التي تحول هؤلاء إلى مجموعة من الناقمين على المجتمع، لأن" اكتساب المعارف التي لا يمكن استخدامها هو الوسيلة المؤكدة لتحويل الإنسان إلى متمرد"(Gustave Le Bon - Psychologie des foules).

فالخريج إما أن يتحول إلى ناقم، أو أن يعيش حالة عزلة تدفعه إلى هامش المجتمع بما يسمح لقوى أخرى بأن تعيد صياغة وعيه من جديد وفق ما يخدم برامجها، أو في أحسن الأحوال يبدأ هذا الخريج في نسيان ما تعلمه لكي يعيش، فيبدأ في العودة بالتدرج إلى الأمية من جديد متخلصا من أفكار عقيمة ومشلولة هي السبب الأول في شقائه، وهذه أمّ "الخريفات".

 [email protected]