د.مولاي المصطفى البرجاوي // باحث في علوم التربية/ تخصص ديداكتيك العلوم الاجتماعية
يُمثِّلُ التقويم العنصرَ النهائي في منظومة العملية التربوية، وهو نشاط معياري للتعرُّفِ على مدى تحقيق الأهداف التعليمية - التعلُّمية، والمتمثلة في الكفايات التي تهدف المناهج إلى تحقيقها لدى المتعلم، ولتفعيل هذا النشاط التعليمي - التعلُّمي، فقد كان ثمة توجُّهٌ لتعريض المتعلم لنماذج من هذا النشاط من خلال اختبارات تشتمل عليها تلك الوسائط التعليمية - التعلميَّة.[1]
لكن الاستخدام التقليدي لأدوات التقويم وما يستوعبها من عدم الدقة في بنائها، يمكن أن يعيق التقييم، ومن هنا لم يلعب دوره في عملية تطوير التعليم الذي ننشده؛ لهذا حظي موضوع الدعوة إلى إصلاح نظام التقويم وتطوير أساليبه حيِّزًا مهمًّا ضمن اهتمامات مختلف الأطراف التربوية: (المتعلم، المدرس، المراقب التربوي، جمعية آباء وأولياء التلاميذ...)، كما نُظِّمت جملة من الدورات التكوينية لدراسة السبل الكفيلة لتطوير البحث في علم التقويم (الدوسيمولوجيا)؛ ليُساير مستجدات العصر (العولمة التربوية).
إن تطوير التقويم ضرورة بقاء؛ فالتقويم هو أحد عناصر المنظومة التعليمية، والموجه الرئيس لنموِّها وتطويرها، والمشخِّص لمواطن القوة ونواحي القصور بها؛ لما يوفِّره من المعلومات والبيانات التي تعتمد عليها عمليات التغذية الراجعة؛ إصلاحًا وتطويرًا لمَواطن القوة، وعلاجًا لنواحي القصور، وشمولاً لكل عناصرها، من حيث الأهدافُ العامة، ومدى ارتباطها بأهداف المجتمع واحتياجاته، والمناهج المدرسية، وأدوات التدريس المختلفة، والأنشطة التربوية، والمعلم وكفايته، إلى غير ذلك من مكونات المنظومة التربوية؛ لذا فإننا بحاجة إلى تقويم يهدفُ إلى التحقق من مدى اكتسابِ المعارف والمعلوماتِ والمهارات، وكيفية نمائها في الحياة اليومية (المقاربة الوظيفية، والمواقف الحياتية).
إن نجاح التقويم التربوي رهينٌ بإدماج ناجحٍ وفعَّال لما يُسمَّى ببيداغوجيا التحكم (Pédagogie de maîtrise)، وتنطلق هذه البيداغوجيا من مبدأ مُفاده: أن التلميذ لا ينتقل من وحدة ديداكتيكية/ تعليمية إلى أخرى إلا عندما يتحكَّمُ في الكفايات الأساسية للوحدة الأولى، والانتقال من مستوًى إلى مستوًى أعلى، يستلزم التحكم في الكفايات الأساسية والضرورية؛ لمسايرة الدراسة في المستوى الأعلى[2].
التقويم: المفهوم، والأشكال، والشروط:
أ- التقويم لغةً:
التقويم في اللغة: مأخوذ من الجذر (ق، و، م)، أو من الفعل (قَوَّمَ): قوَّم الأمر؛ أي: أزال عوجَه وأقامه، وقِوامُ الأمر: نظامُه وعمادُه، وقوَّم البضاعة؛ أي: قدَّرَها، والقيمة: ثمنُ الشيء بالتقويم، والتقويم يعني: الاستقامةَ، والاعتدال[3]..
وقوَّم الشيء؛ أي: عدَّله وصححه؛ ويعني: الإصلاحَ بعد التشخيص، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله امرأً قوَّم لسانه))؛ أي: أصلح اعوجاجه، وقوَّم المتاع؛ أي: جعل له قيمة وثمنًا، فالتقويم هنا التثمين، وبذلك فمعنى التقويم في اللغة يدور حول أمرين: الأول: بيان قيمة الشيء، والثاني: تصحيح الخطأ فيه وتعديله.
ب- التقويم عامة:
يتحدَّد فعل التقويم في إمكانية إنتاج أحكام قيِّمة بخصوص أنشطة الإنسان وكفاءته المتنوعة.
هذا تحديد عام لمفهوم التقويم، يزاوج بين الأحكام الحدسية العفوية، التي تحفل بها حواراتنا ونقاشاتنا اليوميَّة، سواء في بُعدها الأخلاقي (هذا صحيح)، أو في بُعدها الفني (إنها لوحة رائعة)، أو في بُعدها الطقسي (كانت حرارة مفرطة)، أو في بُعدها المتعلِّق بالحياة العامة (التدخين خطير)، والأحكام العلمية المبنية على القياس والتحليل والتشخيص والتفسير والتنبؤ[4]...
ج- التقويم التربوي:
عمل تربوي نسقي، فهو ليس مجردَ إضفاء حكم قيمي على المتعلمين وأعمالهم، بل هو عمل ديداكتيكي كامل ومتكامل، يحيط بكل جوانب التكوين، وذلك حينما يَنطلِق من الأهداف ومدى درجة تحققها إلى إجراء يدرسُ ويحللُ ويقوِّم شروط الإنجاز وظروفه، باحثًا عن بواطن القصور في كل العوامل المكوِّنة للفعل التعليمي؛ من وسائل، وطرائق، ومعايير إتقان، وشروطِ عمل... كما أن التقويم يبحث أيضًا - بموازاة بحثه عن عوامل التعثُّر وآليات القصور - عن العوامل الإيجابية في سيرورة الفعل التعليمي؛ بغرض تعزيزها وتأكيدها[5].
د- أشكال التقويم: يمكن التمييز بين أربعة أنواع:
• الاختبار test: هو أهمُّ أداة قياس تستخدم في المجال التربوي، وهو في الغالب مجموعة من الأسئلة أو المثيرات، التي من خلالها يُمكن أن تتمَّ عملية القياس.
• التقييم: إصدارُ حكم في ضوء معاييرَ محددة، بأن نقول: المتعلِّم جيد، ممتاز، ضعيف...
• القياس: يشير إلى القيمة الرقمية (الكمية) التي يحصل عليها المتعلِّم في الامتحان (الاختبار)، وعليه يُصبِحُ القياسُ عمليةً تُعنَى بالوصف الكَمِّي للسلوك.
بصيغة أخرى: إعطاء إجابات الأسئلة قيمةً عددية، وَفْقَ آلية الاختبار؛ يعني: نتائج التحصيل.
• التقويم: هي عملية تعليمية - تعلُّمية مركبة، تتضمن إصدارَ حكم كَمِّيٍّ وكَيفي، بدءًا من التشخيص والتعديل إلى العلاج، وهي عملية إنسانية، وليست عقابًا، بل تشخيص وعلاج لجوانب القصور في العملية التعليمية، وهو مجموعة من الخطوات المنظَّمة والمتكاملة، التي تسعى إلى تقدير مدى تحقيق النظام التربوي للأهداف المخططة له.
هـ- الفرق بين الامتحان والتقويم:
التقويم يتسم بالشمول لتقييم جميع نواتج التعليم (التعليم بالنتائج)، كما أنه يَتَّسِمُ بالاستمرارية لقياس ما حقَّقه الطالب؛ لأنه يبدأ من بداية التعليم وينتهي معه، ويَتَّسِمُ كذلك بتنوُّعِ الأدوات والأساليب المستخدمة منه، وتعدد القائمين عليه، سواء من المعلمين أو الزملاء أو المختص الاجتماعي، أو مدير المدرسة.
أما الامتحان، فهو يركِّزُ على جانب واحد من الشخصية، ولا يقيس الذكاءات المتعددة، والقدرات والمهارات المتنوعة؛ فهي تُقاس بأساليب أخرى متعددة، وهناك تجربة للتقويم الذاتي في فرنسا تركِّزُ على ملاحظة المتعلم ومتابعته طوال فترة تعليمه، بحيث يكون له ملف أو بطاقة منذ بداية مرحلة التعليم حتى النهاية، يرصد هذا الملف بيانات المتعلم وقدرته على التحصيل والتحليل والفهم، وما يملكه من قدرات ومواهب، وما يستطيع أن يحقِّقَه من إنجازات ومهام صعبة، ومدى ارتباطه بالمجتمع وميوله؛ مما يساعد المعلم في توجيه المتعلم[6].
التقويم والسيرورة التربوية:
مرَّ التقويم من الناحية التعليمية والتربوية بثلاث مراحل كبرى:
• التقويم الموسوعي: ظهر مع بيداغوجيا المضامين والمحتويات (صنافات بلوم)، ويسمَّى - أيضًا - بالتقويم الانطباعي؛ الذي يفتقد إلى معايير ومؤشرات علمية دقيقة، تركز على أسئلة عامة وفضفاضة من قبيل: حلِّل وناقش.
• التقويم الميكانيكي: ظهر مع بيداغوجيا الأهداف، من خلال تسطير مجموعة من الأهداف التعلمية، وتقويمها بما يسمَّى بالتغذية الراجعة للتأكد من تحققها.
• التقويم الشامل: الذي جاءت به بيداغوجيا الكفايات، بالرغم من أنه يركز على التقويم التكويني - البنائي، فإنه جاء بمقتضيات ومؤشرات متنوعة تجمع بين البُعد المعرفي والمهاري والمَواقفي.
التقويم التربوي - دراسة مقارنة[7]: