محمد مومني: استاذ بالثانوي
لعل الحديث عن مصطلح الهدر في المجال التربوي يدفعنا دائما الى التفكير في المفهوم الرائج المرتبط بالهدر المدرسي الذي يخص التلميذ في حين يغفل المهتمون بالشأن التعليمي أن هناك هدرا اخر لا يقل أهمية عن الهدر المدرسي مرتبط بوضعية الإطار التربوي و هو ما يمكن أن يطلق عليه اصطلاحا بالهدر الوظيفي.
ويقصد بالهدر الوظيفي ذلك الكم الهائل من الوقت الضائع الذي ينتج عن الوضعيات الغير مستقرة للإطار التربوي سواء كان ذلك عن قصد او غير قصد. وهناك نماذج عديدة لهذه الوضعيات التي تؤثر سلبا على جودة التعليم. اذا كانت وزارة التربية تحارب الهدر المدرسي بكل الوسائل فعليها في المقابل ان تعمل أيضا على محاربة الهدر الوظيفي الذي تحول الى ظاهرة سلبية منتشرة بشكل فضيع في جل المؤسسات التربوية. مما يفوت فرصا حاسمة لتحسين ظروف التمدرس خاصة وان الاعلان عن مدرسة النجاح تم في ظروف قاسية حولت هذا الشعار الى عبء على كل المسؤولين في المجال التربوي والتعليمي نظرا لصعوبة المهمة و تسلط الفشل على كل المحاولات التي قامت بها الحكومات السابقة للخروج من المأزق. وقد تسجد هذا الوضع السيئ للتعليم عبر الخطاب الملكي 20 غشت 2013 حيث قدم تشخيصا واقعيا للازمة التي تمر بها منظومتنا التعليمية.
ولعل مسألة الهدر الوظيفي قد زادت من الاضرار وكلفت الدولة ميزانية لا يستهان بها من جراء تضييع ساعات هائلة من العمل فهناك لحد الان اطر تربوية لازالت في حالة من الجمود بسبب وضعيتها الغامضة فلازال العديد في وضعية الفائض ولم يحسم لحد الان في أمرهم وتخيلوا كم من الغلاف الزمني يضيع على الدولة ونحن الان في منتصف اكتوبر فأستاذ واحد فائض يفوت على الامة ما بين 20 ساعة و 30 ساعة اسبوعيا من العمل اضافة ما يوازي ذلك من هدر للمال العام. ولعل المسؤول عن هذه الوضعية لا يمكن اختزاله في طرف واحد ما دام ان المنظومة التعليمية التربوية هي قطاع يحمع بين العديد من الشركاء والمسؤوليات, إلا ان المحزن هو ان هذه الوضعيات السيئه تتكرر سنويا والنماذج كثيرة ومتواجدة في كل المناطق.كما ان عوامل عديدة تتحكم في الامر وأبرزها كما اكد ذلك الخطاب الملكي 20 غشت 2013 تلك المزايدات السياسية التي توغلت الى داخل المنظومة التعليمية و أدت الى شلل كل المحاولات الاصلاحية حتى بات المسؤول عن الشأن التعليمي رهين هذه الخلافات وعاجزا عن تصحيح الوضع كما يحدث الان في كل النيابات التعليمية حيث لا زالت لوبيات الضغط تتحكم في هندسة خريطة الموارد البشرية.
ومن ابرز مظاهر الهدر المدرسي ما يتعلق بوضعية العديد من الاطر التربوية التي تعودت على الترحال بين المؤسسات التعليمية بتكليفات مؤقتة تكرس لانعدام الاستقرار الاداري والتربوي بحيث في كل سنة تتكرر عملية انتشار الموظفين و تتعطل معها المصالح لعدة ايام وكمثال على ذلك تلك الفئة العريضة من الاطر التربوية التي استفادت من تغيير الاطار في السنوات الماضية والتي وجدت نفسها مضطرة الى المشاركة في حركة انتقالية مفاجئة بعدما كانت مستقرة بشكل مؤقت في عدة مؤسسات وإدارات تعليمية. لحد الان لم يحسم في امر هذه المجموعة الهائلة من ملحقين تربويين ومقتصدين ومتصرفين (الناظور كنموذج) ولازالوا في وضعية معطلة حيث لم تسند لهم أي مهام رغم الحاجة الملحة اليهم بالرغم من ان اغلب المؤسسات التعليمية تعاني من خصاص كبير في الاطر الادارية. هدر وظيفي مجاني تتحكم فيه لغة الضغط والمزايدات والمصالح الخاصة.
وهناك هدر وظيفي من نوع اخر يتعلق بالتعثرات التي تواكب الدخول المدرسي المرتبطة بعملية انتشار اطر التدريس التي تعرف دائما تأخرا كبيرا في ضبطها في زمن معقول مما يحول العديد من المؤسسات التعليمية الى فضاءات للانتظار والترقب. وتسود العبثية والارتجالية في حسم الامور منذ بدايتها وتضيع ساعات من العمل و تتعطل معها المسيرة التعليمية طيلة السنة. وهناك أمثلة متعددة للهدر الوظيفي تستدعي اعادة النظر في الموارد البشرية وفي ادائها. ولعل ابرز النماذج التي تكرس هذه الظاهرة تتعلق بما يطلق عليه بالتفرغ لمهمة اخرى غير المهمة الاصلية حيث استفاد ويستفيد من هذه الوضعية العديد من موظفي وزارة التربية الوطنية حسب اللائحة التي اصدرتها في عهد الوزير السابق. ولعل ما يثير الاهتمام كون هذا التفرغ تستفيد منه عدة هيات ومنظمات ومؤسسات لم تقدم ولو فلسا واحدا لتكوين هؤلاء الموظفين بل قدمتهم لهم الوزارة كهدية من دون حتى اعداد دفتر تحملات خاص بالوضعية الجديدة للموظف. ماذا سيكون مصيره اثناء حادثة شغل في مكان غير المكان الاصلي الذي من اجله صرفت الدولة اموالها؟
ماذا لوأن وضعيته الجديدة تسببت له في مشاكل صحية دائمة , فما الجهة التي يجب ان تصرف على تغطيته الصحية؟ ماذا لو رفضت التعاضدية وضعيته كمتفرغ في مؤسسة غير تلك التي تربطها معها الاتفاقية؟ هل المؤسسات المستقبلة لهؤلاء الموظفين تقدم حماية لهم من حيث التأمين على حوادث الشغل والتنقل؟ وهل الوزارة على علم بالعشرات من هذه الفئة الذين يغادرون ارض الوطن متى شاؤوا دون حسيب ورقيب تحت مظلة الهيئة التابعين لها رغم ان هذه المسألة تتعلق بالإدارة الرسمية للموظف؟ وهل وزارة التربية على دراية بوضعية بعض الهيات والمنظمات التي تختفي وتظهر عبر الزمن والمكان؟ وهل يعقل ان تتأسس جمعية بين ليلة وضحاها و تزودها الوزارة بخيرة أطرها التربوية؟
رغم ان الوزارة انتبهت الى هذه الفئة مؤخرا معتمدة على رؤية جديدة لتدبير مواردها البشرية إلا انه من اللازم العمل على وضع صيغة قانونية تضمن حقوق الموظف وتنهي الصلة مع زمن التفرغ العبثي. فالموظف الذي صرفت الدولة عليه الملايير لتكوينه لا بد ان يبقى تحت تصرف ادارته الاصلية رغم التفرغ من حيث فرض التزامات خاصة مثل تقديم استعمال زمن خاص بأوقات عمل المتفرغ وضرورة مراقبته كما يجب على المؤسسة المستقبلة تأمينه من الحوادث والأضرار وفي حالة الاخلال بالالتزام يحق للوزارة اعادة موظفيها.
ومن النماذج الاخرى للهدر الوظيفي تلك المتعلقة بالتكليفات التي تفرضها جهات ضاغطة و التي يستفيد منها بعض المحضوضين والتي توفر لهم حماية خاصة وحرية التغيب و التنقل دون اية محاسبة خاصة عندما يتعلق الامر بالتكليفات الادارية التي غالبا ما يتم وضع هذه الفئة في مناصب خاصة لا تثير الشكوك وتخول للمستفيد التفرع لمهن اخرى كالتجارة والسمسرة بل منهم من يغادر ارض الوطن دون ان يشعر به احد.
وهناك نموذج شائع للهدر الوظيفي يتجلى في استعمالات الزمن التي لا تستجيب للساعات القانونية لأسباب متعددة متعلقة بالتدبير السيء للموارد البشرية وبالخصاص في البنيات التحتية. هذه الوضعية موجودة بالخصوص في السلكين الاعدادي والثانوي فهناك العديد من الموظفين الذي اشتغلوا لسنوات عديدة ولازالوا بنصف المدة القانونية بل وأقل من ذلك في بعض الحالات حيث لا تتعدى ثماني ساعات فيما يعتبر أكبر هدر وظيفي في المنظومة التربوية. ورغم ان الوزارة انتبهت الى هذه المسألة مؤخرا لا ان عملية تدبيرها تعرف عجزا حقيقيا نظرا لتضارب مصالح الاستاذ مع الاجراءات الجديدة التي وان كانت تهدف الى تخليق الحياة الدراسية الا انها في المقابل حولت الاستاذ الى ضحية خاصة بعد ان وجد العديد من الاساتذة انفسهم كأشباح في وضعية لا ناقة ولا جمل لهم فيها وحولت حياتهم الى رعب بعدما فرضت عليهم قصرا عملية الترحيل من مؤسساتهم. هذه العملية التي هي الان في طور الانجاز تعرف خللا كبيرا ساهم في ارباك الحياة الدراسية للعديد من المؤسسات نظرا للجدل الكبير الذي فرضته مذكرة تدبير الفائض وإعادة الانتشار.
لو قمنا بإحصائيات دقيقة للزمن الضائع الناتج عن ظاهرة الهدر الوظيفي لأصابتنا الصدمة من هول الملايير من المال العام التي تذهب هباء منثورا سنويا مما يساهم بشكل كبير في فشل كل الاصلاحات والمبادرات التصحيحية في المجال التربوي ويكلف خزينة الدولة ما يكفي لبناء المؤسسات التعليمية وتوفير التجهيزات اللازمة.
الهدر الوظيفي يصاحبه من دون شك هدر تربوي تضيع معه ساعات من العمل مما يؤثر بشكل سلبي على العملية التربوية ويعرقل المسيرة التعليمية. لذا فان ما ينقص ادارتنا تلك الرؤية الاستراتيجية المبنية على أسس علمية مرتبطة بالزمان والمكان تعتمد على مقاربات واقعية غير خاضعة للتأثيرات السلبية. وهكذا فان السبيل الوحيد للتصدي لظاهرة الهدر الوظيفي تتمثل في خلق ادارة استراتيجية مبنية على الشفافية والحكامة الجيدة وقادرة على التأقلم مع المستجدات والمتغيرات.
ويمكن دائما الرجوع الى الخطاب الملكي ل 20 غشت 2013 الذي بين فيه مكامن الضعف في المنظومة التعليمية والتي نبه الى أنه
"لا ينبغي إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، ولا أن يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسوية"،
كما شدد على ضرورة "وضع القطاع التربوي في إطاره الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، غايته تكوين وتأهيل الموارد البشرية، للاندماج في دينامية التنمية، وذلك من خلال اعتماد نظام تربوي ناجع"
كلمات توضح احد اهم اسباب الهدر الوظيفي المرتبط ببعض الممارسات السلبية التي تفرضها الصراعات والضغوطات السياسية كما قدم تصورات واقعية للحد من هذه الظواهر السلبية التي لا يمكن التخلص منها دون اشراك جميع مكونات المجتمع المرتبطة بقطاع التربية الى جانب تأهيل الموارد البشرية وليس تذويبها فيما يسمى بالتفرغ و التكاليف الغامضة.