جواد الحكومي،
- خريج السلك العالي في التدبير الإداري للمدرسة الوطنية للإدارة.
- باحث في سلك الدكتوراه، شعبة القانون العام و العوم السياسية، تخصص القانون للإداري وعلم الإدارة. كلية الحقوق والاقتصاد والتدبير. جامعة القاضي عياض، مراكش.
- متصرف بوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني.
يتحدد النشاط الإداري الذي تقوم به الإدارة العمومية في مجالين اثنين أولهما الحفاظ على النظام العام و الذي تمارسه عن طريق الشرطة الإدارية، و ثانيهما تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين والذي تمارسه عن طريق المرافق العامة، وهي في كل هذا وذاك تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة. و كما هو معلوم فالمرفق العام (Le Service public) يخضع لمبادئ توصف بالأساسية. وفي هذا المجال فإن المبادئ التي يتفق بشأنها فقهاء القانون الإداري و تنص عليها مختلف الأنظمة القانونية وتأكد عليها الاجتهادات القضائية هي: 1) مبدأ استمرارية المرفق العام (Principe de continuité du service public). 2) مبدأ المساواة أمام المرفق العام (Principe d’égalité devant le service public). 3) مبدأ قابلية المرفق العام للتغيير و التبديل Principe) d'adaptabilité/mutabilité du service public). وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدستور المغربي أضاف إلى هاته المبادئ الثلاثة مبدأي الجودة و الإنصاف في تغطية التراب الوطني.[1]
و سنقتصر هنا على مبدأ استمرارية المرفق العام، و الذي مفاده أن يقدم هذا الأخير خدماته للمواطنين بانتظام و دون انقطاع، لكونه يقدم خدمات أساسية، تشبع حاجات جوهرية لا يستطيعون الاستغناء عنها في معيشهم اليومي. و بالتالي فإن كل انقطاع أو توقف من شأنه أن يحدث اضطرابا خطيرا في الحياة العامة.
إلا أن عمل المرفق العمومي بانتظام واضطراد قد تعترضه بعض العوارض كالقوة القاهرة و الظروف الطارئة واسقالة الموظف العمومي و ممارسة حق الإضراب. و كما اقتصرنا سابقا على مبدأ استمرارية المرفق العام كمبدأ من المبادئ التي تحكم سير المرافق العامة فإننا سنقتصر هنا على الإضراب كعارض من عوارض مبدأ استمرارية المرفق العام.
وقد عرف الإضراب بتعاريف عديدة و متعددة تجمع غالبيتها على أنه "توقف عن العمل" و تصفه بكونه "مقصودا" و "مؤقتا" و "جماعيا" و "مدبر له مسبقا" و "يهدف إلى تحقيق مطالب مادية أو قانونية".
و أول إضراب في التاريخ كان في عهد الفراعنة، في دير المدينة 1152 قبل الميلاد، ضد رمسيس الثالث أشهر حاكم في الأسرة العشرين.[2] كما أن الدستور المكسيكي، كان هو أول دستور في العالم يضمن الحق القانوني في الإضراب وذلك عام 1917[3] ثم أقرته بعد ذلك دساتير جل الدول.
وسنحاول في هذا المقال مقارنة المعاجلة القانونية لحق الإضراب في النظام الأنجلوسكسوني و النظام الماركسي-الليليني( كمبحث أول)، ثم في النظام الفرنكفوني (كمبحث ثان).
- I. الإضراب في النظام الأنجلوسكسوني و النظام الماركسي-الليليني كمبحث أول.
سنستقرئ في هذا المبحث المعاجلة القانونية لحق الإضراب في الولايات المتحدة الأمريكية (كمطلب أول) و في المملكة المتحدة (كمطلب ثان) و في مصر (كمطلب ثالث) ثم في الأنظمة الماركسية- اللينينية (كمطلب رابع و أخير).
- الإضراب في قوانين الولايات المتحدة الأمريكية كمطلب أول.
في الولايات المتحدة الأمريكية لا يحق للموظفين الفدراليين أن يمارسوا الإضراب، و يلتزمون بعدم ممارسته أثناء تأديتهم قسم أو يمين التوظيف. كما أن النقابات التي تطالب بهذا الحق لا يمكن الاعتراف بها مطلقا. وقد طرح هذا المشكل بحدة سنة 1981 بمناسبة الإضراب الذي شنته نقابة مراقبي الأرصاد الجوية، فقد عالج الرئيس ريغان (Reagan ) هذه القضية بصرامة لم يسبق لها مثيل و لم تتوقعها هاته الهيئة مطلقا، لكونها تعد من الهيئات التي أيدت انتخابه و في نفس السنة التي جرت فيها هاته الأحداث.
وقد وقع الرئيس ريغان (Reagan ) على قرار يقضي بطرد 11000 موظفا من أصل 15000، وأحل محلهم أفرادا من الجيش بصفة مؤقتة، إلى حين تكوين موظفين جدد لتعويض الموظفين المطرودين. و قد كانت هذه الصرامة سببا رئيسا في اختفاء الأضراب عن العمل في الولايات المتحدة الأمريكية.
- الإضراب في قوانين المملكة المتحدة كمطلب ثان.
في بريطانيا لا يوجد أي نص قانوني أو اجتهاد قضائي يقضي بترخيص أو حضر ممارسة حق الإضراب، الأمر الذي ترك باب التأويل القانوني مفتوحا على مصراعيه. و عموما يمكن تجميع كل التأويلات القانونية الواردة في هذا الباب ثم تقسيمها إلى قسمين اثنين:
- الأول يرى بأن الأصل في الأمور الإباحة و كل ما هو غير محضور فهو مباح. و بما أن القانون البريطاني لا يمنع الإضراب صراحة، فهو يجيزه ضمنيا.
- و أما الثاني فمفاده أن الإضراب سلوك لا يليق بكل بمن يحمل صفة "موظف عمومي" نظرا لطبيعة المهام المسندة إليه، وعليه فان ممارسته تبقى مرهونة بترخيص صريح تمنحه السلطة القضائية.
- 3. الإضراب في القانون المصري كمطلب ثالث.
ينص قانون العقوبات المصري في مادته 124 على أنه إذا ترك ثلاثة على الأقل من الموظفين أو المستخدمين العموميين عملهم ولو في صوره الاستقالة أو امتنعوا عمدا عن تأدية واجب من واجبات وظيفتهم ،متفقين على ذلك أو مبتغين منه تحقيق غرض مشترك ،عوقب كل منهم بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تجاوز سنة وبغرامة لا تزبد على مائه جنيه ،ويضاعف الحد الأقصى لهذه العقوبة إذا كان الترك أو الامتناع من شانه أن يجعل حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم في خطر ،أو كان من شانه أن يحدث اضطرابا أو فتنة بين الناس أو أضرارا بمصلحة عامة.
- 4. الإضراب في قوانين الأنظمة الماركسية- اللينينية كمطلب رابع.
في الأنظمة الماركسية - اللينينية، مثل الاتحاد السوفييتي و الصين، الإضراب غير مشروع وينظر إليه على أنه مضاد و معاد للثورة. فالحكومة في هاته الأنظمة ترى بأن النقابات والإضرابات لا داعي لوجودها، لأن الحكومة هي الممثل الحقيق للعمال.[4]
- II. الإضراب في النظام الفرنكفوني كمبحث ثان.
بعدما قمنا في المبحث الأول بمقارنة المعالجة القانونية لحق الإضراب في النظام الأنجلوسكسوني و النظام الماركسي-الليليني، سنمر الان لمقارنة المعالجة القانونية لهذا الحق في النظام الفرنكفوني، حيث سنتطرق لممارسة حق الإضراب في القانون الفرنسي (كمطلب أول ) ثم في القانون المغربي (كمطلب ثان).
- 1. الإضراب في القانون الفرنسي كمطلب أول.
الإضراب وبعد حضره لمدة طويلة بالنسبة للموظفين و للأسباب المذكورة أعلاه ( تعارضه مع مبدأ استمرارية المرفق العمومي ) جاء دستور 27 أكتوبر 1946 ليكرس و لأول مرة الاعتراف به في إطار القوانين والتنظيمات التي أن يجب تضبط ممارسته. إلا أن القوانين التي صدرت تطبيقا للدستور- بهذا الشأن- جاءت متأخرة ولم تشكل في نظر القضاء نصوصا شاملة ومتكاملة من شأنها أن تحيط بمختلف أبعاد الموضوع، الأمر الذي حمل مجلس الدولة على التدخل حيث قال : " أمام العجز القانوني والتقصير البرلماني، يجب على السلطة التنفيذية أن تتدخل -و تحت رقابة القضاء- لوضع الضوابط التي ينبغي احترامها في حالة الإضراب". وبقي هذا المبدأ ساري المفعول حتى بعد صدور قانون 31 يوليوز 1963[5] .
وقي هذا الإطار أصبح لكل الأجراء الحق في اللجوء إلى الإضراب شريطة أن لا يتعسف في استعماله لاسيما لأسباب غير مهنية وقد أخذ مجلس الدولة بهذه القاعدة بالنسبة للموظفين رغم أنه من الصعوبة بمكان التأكد من الطابع المهني للإضراب. أما إذا استهدف الإضراب أغراضا سياسية أو حزبية فإنه يصبح غير مشروع، وهذا ما استقر عليه مجلس الدولة الفرنسي منذ حكم Dehaen.
وجاءت بعد ذلك مجموعة من الاجتهادات القضائية تؤكد على أن الإضراب و إن كان معترفا به في فرنسا منذ عام 1946، إلا أنه يمكن أن ترد عليه قيودا بسبب مقتضيات سير المرافق العامة.
ومع كل هذا و ذاك تعتبر فرنسا من البلدان التي يمارس فيها حق الإضراب بصفة واسعة رغم القيود الدستورية والقانونية والإدارية والقضائية التي تحيط مسطرة الترخيص للإضراب عن العمل.
و كخلاصة يمكننا القول بان حق الإضراب في الوظيفة العمومية الفرنسية مقيد بضرورة التوفيق بين مقتضيات الاستمرارية الإدارية و النظام العام من جهة وبالسهر قدر الإمكان على احترام الحريات العمومية المعترف بها للموظفين من جهة أخرى، الأمر الذي ينتج عنه:
- حضر الإضراب بالنسبة لفئات معينة من الموظفين إما بناء على طبيعة المهام المسندة إليهم أو الرتبة التي يحتلونها في الهرم الإداري.
- أو إلزامية ضمان الحد الأدنى من الخدمة العمومية وتحديد قائمة المناصب التي ينقطع بها العمل وبالتالي أن يمكن لأصحابها ممارسة حق الإضراب.
وفى كل الأحوال يرجع إلى القضاء السهر على التوازن الذي ينبغي أن يسود باستمرار بين متطلبات السير العادي للمرافق العمومية و احترام حريات و حقوق الأفراد و الجماعات.
- 2. الإضراب في القانون المغربي كمطلب ثان.
في البدء كانت المملكة المغربية تجرم الإضراب حيث كان النص القانوني المعمول به في هذا الباب هو الفصل الخامس من مرسوم 5 فبراير 1958 المتعلق بمباشرة الموظفين للحق النقابي والذي جاء فيه : " كل توقف عن العمل بصفة مدبرة وكل عمل جماعي أدى إلى عدم الانقياد بصفة بينة يمكن المعاقبة عليه علاوة على الضمانات التأديبية ويعم هذا جميع الموظفين"، ولكن ومع مجيء دستور 14 دجنبر 1662 ، أصبح الإضراب حقا مضمونا بموجب الدستور إذ ينص هذا الأخير في القصل 14 منه على أن "حق الإضراب مضمون"، وسيتم التأكيد على دستورية هذا الحق في الدساتير اللاحقة: 1970و1972 و 1992و 1996 إلى أن استقر به المقام في الفقرة الثانية من الفصل 29 من دستور 30 يوليوز 2011 التي تنص على أن "حق الإضراب مضمون و أنه سيصدر قانون تنظيمي يحدد الشروط والإجراءات التي يجب أن يمارس فيها الإضراب"، إلا أن السلطة التنفيذية لم تعمل على إصداره لحد الآن مع العلم أن الدستور الحالي يلزمها على إخراج جميع القوانين التنظيمية قبل متم ولايتها الحالية.
و رغم عدم صدور القانون التنظيمي الذي يحدد الشروط والإجراءات التي يجب أن يمارس فيها الإضراب، يحرص الموظفون بالمغرب على ممارسة حق الإضراب في عدة مناسبات للضغط على الحكومة للاستجابة للملفات المطلبية المطروحة من طرف منظماتهم النقابية. كما أن النقاش القانوني والفقهي حول هذا الحق يعرف انتعاشا حقيقا عند حدوث إضراب أو اقتطاع الإدارة من أجور الموظفين. و عموما يحتدم النقاش في هذا الباب حول نقطتين اثنتين، أولاهما مدى قانونية ممارسة حق الإضراب في ظل غياب قانونه التنظيمي، و ثانيهما مدى قانونية الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل.
و أمام هذا الفراغ القانوني كان لزاما على القضاء الإداري، استنادا إلى دوره الإنشائي عندما يخلو المجال من النص، أن يخلق ضوابط كفيلة بتأمين الحق في ممارسة الإضراب مع الأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على سير المرافق العامة بانتظام وباضطراد. وهنا سنكتفي بذكر حكمين قضائيين الأول يحسم في مدى قانونية الإضراب في ظل غياب القانون التنظيمي و الثاني يحسم في مدى قانونية الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل.
- § الحكم الأول: حكم صادر عن إدارية مكناس تحت عدد 63/2001/3-غ بتاريخ 12 يوليوز 2002 قضى بإلغاء القرار الصادر عن وزير التربية الوطنية القاضي باتخاذ عقوبة الإنذار في مواجهة الطاعن(محمد شيبان)معللا كما يلي: " الإضراب حق دستوري أكدته جميع الدساتير المتعاقبة و عدم صدور تشريع تنظيمي يحدد كيفية ممارسة حق الإضراب لا يعني إطلاق هذا الحق بلا قيود، بل لا بد من ممارسته في إطار ضوابط تمنع من إساءة استعماله و تضمن انسجامه مع مقتضيات النظام العام و السير العادي للمرافق العمومية على نحو لا يمس سيرها المنتظم بشكل مؤثر، كما أن عدم ثبوت أن الإضراب الذي خاضه الطاعن فيه خروج عن الضوابط المذكورة( الإخلال بسير المرفق العام،..) لذلك لا يمكن اعتباره تقصيرا في الواجب المهني وبالتالي تكون عقوبة الإنذار المؤسسة على هذه الواقعة لاغية"
- § الحكم الثاني: حكم صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 7/02/2006 ، في الملف عدد:107/2005 قضت فيه برفض طلب تقدم به أحد المضربين يطعن بواسطته في القرار القاضي باقتطاع من أجرته عن التغيب المبرر، موضحة في حيثيات الحكم: " إن حق الإضراب حق أصيل، مكفول دستوريا، وغياب النص التنظيمي ووجود فراغ تشريعي بخصوص تنظيم هذا الحق يعطي القضاء الإداري استنادا إلى دوره الإنشائي، إمكانية خلق ضوابط كفيلة بتأمين ممارسته بشكل يضمن الحفاظ على سير المرافق العامة بانتظام وباضطراد " ، وأضافت المحكمة " أن ثبوت عدم التزام الجهة المضربة بالضوابط المقررة لممارسة هذا الحق أدى إلى عرقلة سير المرفق العام، ولجوء الإدارة إلى تطبيق مقتضيات المرسوم الصادر بتاريخ 10 مايو 2005 باعتبار أن الأجر يؤدى مقابل العمل يجعل قرار الاقتطاع من الراتب قرارا مشروعا ".
و انطلاقا من هاذين الحكمين و أحكام أخرى نستنتج ما يلي:
- الإضراب اذا مورس في إطار ضوابط تمنع من إساءة استعماله و تضمن انسجامه مع مقتضيات النظام العام و السير العادي للمرافق العمومية يعد أمرا مشروعا، و لا يحق لأي كائن كان أن يصف غياب المضرب عن العمل بالتغيب غير المشروع، كما لا يحق لأي كائن كان أن يعيق الممارسين للإضراب من ممارسة حقهم الدستوري.
- § الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل إجراء مشروع تطبيقا لقاعدة الأجر مقابل العمل، شريطة ألا يكون مشوبا بعيب من العيوب التي تشوب القرارات الإدارية وتجعلها تحت طائلة البطلان. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العيب الإداري الأكثر انتشارا في هذا الباب هو عيب عدم استيفاء الشروط الشكلية و الإجراءات المسطرية، الناتج أساسا عن عدم الاستفسار عن سبب التغيب و عدم الإشعار بالاقتطاع من الأجرة.
و الأخير نأكد على أنه بالرغم من أن دسترة الحق في الإضراب قد تمت في بدايات القرن الماضي، فإن المعالجة القانونية لهذا الحق لم يسبق لها أبدا أن كانت معالجة شافية كافية، بل لا زالت لحد الساعة تفتقد لكثير من الوضوح. فهناك من الدول من تعترف بالحق في الإضراب وتقيده بضوابط قانونية وإدارية وقضائية صارمة و منها من تقف منه موقف عدم الحضر و عدم الترخيص و منها من تحضره بصفة مطلقة.
[1] الفصل 154 من دستور المملكة المغربية المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر بتاريخ 28 شعبان 1432 موافق 30 يوليوز 2011.
. https://ar.wikipedia.org [2]
نفس المرجع.[3]
بتصرف. . https://ar.wikipedia.org [4]
قانون 31 يوليوز 1963 المتضمن لبعض الأحكام المتعلقة بالإضراب في المرافق العمومية وقانون 6 يوليوز 1966 في فرنسا . [5]