حاوره: سعيد الشقروني
بداية، باسم طاقم تربويات سعداء بالخوض معكم في حوار نريده ملامسا لسؤال له من الوجاهة والراهنية، أقصد الحديث عن مسألة مراجعة منهاج التربية الإسلامية..لكن قبل ذلك، أخبر قراء الحوار بأني أحاور الباحث والأكاديمي الدكتور عبد الله الجباري، من مواليد مدينة القصر الكبير التي تلقى بها تعليمه إلى حدود الباكلوريا، حاصل على شهادة الدكتوراه من شعبة الدراسات الإسلامية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وباحث مهتم بالشؤون التربوية والفكر الإسلامي، له العديد من الأبحاث والدراسات المنشورة، وشارك في العديد الملتقيات الوطنية والدولية..الأستاذ عبد الله الجباري مرحبا بكم..
الجواب: العفو الأستاذ سعيد، بدوري أشكركم على فتح هذا الحوار وطرق هذا الموضوع الحساس، والذي يعرف راهنيته في واقعنا التربوي.
سؤال : أختار كبداية السؤال التالي، هل التربية الدينية مسؤولة عن هذا الأمر؟
جواب: لا أجدني متحمسا لجعل انتشار الفكر المتشدد لصيقا بمادة التربية الإسلامية، وكأنه مخرج من مخرجاتها، لأن كثيرا ممن يحملون هذا الفكر هم من خريجي المعاهد العلمية والتقنية، ومن حملة الشواهد الهندسية والتجارية وغيرها، أضف إلى ذلك أن كثيرا من حملة هذا الفكر هم خريجو التعليم الأوربي (فرنسا – هولندا ...)، وهم لا علاقة لهم بمادة التربية الإسلامية وموضوعاتها المقررة على تلاميذ المدرسة المغربية.
فإذا تتبعنا سير كثير من الموصوفين بالتشدد الفكري، وبعضهم تم اعتقالهم في سياقات معينة، تجدهم ذوي زاد علمي ضعيف جدا، بحيث لم يتجاوزوا مستوى الإعدادي، مما يدل على أن مادة التربية الإسلامية لم تسهم في صياغة عقولهم، ولم تشارك غيرها من المواد في بلورة فكرهم.
مع كل ما سلف، تحتاج مادة التربية الإسلامية اليوم إلى إحداث مراجعة شاملة، كما أن المنظومة التربوية في مجملها ليست في غنى عن ذلك الإصلاح.
سؤال: على ذكر الحاجة إلى إحداث مراجعة شاملة، أيهما في حاجة أكثر إليها: طريقة التدريس والتلقين، أم المضامين..؟
جواب: غني عن البيان أن مادة التربية الإسلامية وغيرها من المواد خضعت لمنطق الوزارة الوصية في تغير الطرائق البيداغوجية، حيث تم الانتقال من التدريس بالأهداف إلى التدريس بالكفايات، إلا أن هذه النقلة محتاجة اليوم – في مجملها - إلى دراسة وتقويم، لنعرف نجاحات المنظومة وإخفاقاتها في هذه المسألة، وذلك بغية تجويد العرض التربوي للتلميذ.
أما بالنسبة لمادة التربية الإسلامية، فلن تكون في غنى عن المراجعة والتطوير، وإلا فستكون مخالفة للسنن الكونية، هذه المراجعة لا بد أن ننظر إليها في شموليتها، إذ من غير المنطقي أن يعرف الفصل الدراسي اكتظاظا على مستوى المتمدرسين، ثم تطلب من الأستاذ أن يدرس وفق النظريات الحديثة، أضف إلى ذلك ضرورة استفادة المدرس من التكوين المستمر الجدي، والتأطير التربوي المباشر من مفتشي التربية والتكوين...
وعلى مستوى المضامين – وهنا مربط الفرس – فالمادة في حاجة إلى تطوير وتغيير جذري، بالنظر إلى الإكراهات والتطورات الخطيرة التي تعرفهما منطقتنا ومحيطنا الإقليمي، وكذا الواقع المجتمعي الداخلي.
على المستوى الإقليمي: نجد انتشار فكر العنف والتشدد والتطرف، مع الجاذبية الملحوظة له من قبل شبابنا، وهو ما يدعو إلى تحمل المادة مسؤوليتها في تحصين الشباب ثقافيا مخافة انجذابه لهذا الفكر.
على المستوى الداخلي: نلمس فشو ظواهر خطيرة في المجتمع، بحيث لا تكاد تتصفح الجرائد الوطنية إلا وتخلص إلى التدني القيمي الذي وقع فيه مجتمعنا، وذلك من خلال انتشار أخبار العنف المادي ضد المدرسين، أو العنف ضد الأصول (الأب أو الأم) أو ضد الأقارب، الاغتصاب، الانتحار، ... ولعل الظواهر المشار إليها تعد مادة إعلامية يومية في وسائل إعلامنا المتعددة، من هنا نسائل المنظومة التربوية عموما، ومادة التربية الإسلامية خصوصا، (على اعتبار أنها من أهم المواد الحاملة للقيم) عن مدى دورهما في تأطير التلاميذ في أفق تكوين "المواطن المتصف بالاستقامة والصلاح، المتسم بالاعتدال والتسامح" كما هو منصوص عليه في المبادئ الأساسية للميثاق الوطني للتربية والتكوين، وإذا لم تستحضر المقررات الدراسية لمادة التربية الإسلامية هذا الهمّ القيمي والبعد التربوي، فإنني أشكك في سؤال الجدوى من وجودها أصلا.
سؤال: هل يمكن أستاذي الفاضل أن تقدم لنا مثالا على ذلك؟
جواب: خذ مثالا على ذلك، ما الهدف من تلقين دروس الإرث لتلاميذ مستوى الأولى باكلوريا ؟ ولماذا يتم رهن أكثر من نصف الدورة الثانية لمستوى الأولى الباكلوريا بحقوق الوارثين وطرق التأصيل والتصحيح والعول وغير ذلك من الأمور التقنية/الفقهية ؟ وما هي القيم التي يمكن غرسها في التلميذ من خلال مثل هذه الدروس؟ مع الإشارة إلى أنه وبحكم تجربتنا، فإن كثيرا من التلاميذ لا يستوعبون هذه الدروس، ويكون لها أثر سلبي على نقطهم في الامتحان، بل إن كثيرا من التلاميذ يكرهون المادة عموما بناء على دروس الإرث، وبالمقابل، فإنه يمكن الاكتفاء بتدريس أوليات وأبجديات الإرث في درس واحد، ويتم التركيز من خلاله على مجموعة من الأمور، مثل تطور مكانة المرأة في الإسلام، حيث أعطاها نصيبا في الإرث بعد أن كانت محرومة، وأنها ترث مثل الرجل أو أكثر منه في بعض الحالات ...، وترك قضايا أخرى تفصيلية وجزئية إلى سنوات التخصص في كليات الحقوق أو شعب الدراسات الإسلامية في مرحلة التعليم العالي.
سؤال: في رأيكم هل يمكن جعل مناهج التربية الدينية مساهمة في محاربة الفكر المتطرف؟
جواب: هذا سؤال وجيه، لأن الفكر المتطرف هو فكر ديني منحرف، لذا وجبت مواجهته بفكر ديني تنويري وسليم، من هنا تجد مادة التربية الإسلامية أهميتها وجدواها، بخلاف بعض من يدعون إلى إلغائها.
وإذا أردنا أن يكون للمادة هذا الدور، فإنه يلزمنا تفكيك أهم مقولات وأفكار الفكر المتطرف، قصد تضمين المادة دروسا ومحاور تبطل أسسه وتنسفها.
خذ مثالا على ذلك، مسألة التكفير، وهي من أهم القضايا التي يشتغل بها وعليها الفكر المتطرف، ما هي أجوبة الدين في هذا الباب؟ وما هي آراء العلماء في قضية التكفير؟ من هنا وجب استثمار منظومتنا الفقهية والعقدية التي أورثنا إياها أسلافنا، ليلمس التلاميذ من خلالها انحراف هذا الفكر، ومن تم تكون البرامج التربوية ومادة التربية الإسلامية قد قامت بدورها في تقوية المناعة الذاتية لدى التلميذ المغربي.
مسألة ثانية أود التركيز عليها، وهي مسألة ذات علاقة بالهوية، وهي ثقافة الرموز، أو الشخصيات المثالية والمهمة في تاريخ الإنسان، كثير من التلاميذ لا يعرفون شيئا عن الإمام مالك وهم تلاميذ المستوى الثانوي التأهيلي، كما لا يعرفون شيئا عن علماء المغرب الذين أسهموا بدور فعال في بناء حضارتنا، فمن منهم يعرف القاضي عياض مثلا ؟ هذا الفراغ في مسألة النموذج والمثال قد يملؤه التلاميذ كل بحسب ظروفه، فمنهم من يملؤه بالفنانين أو بالرياضيين، ومنهم من يملؤه بالزرقاوي أو البغدادي، لذا كان لزاما على من يتولى إصلاح برامج التربية الإسلامية أن يستحضر هذه المسألة، وأن يفتح آفاق التلميذ للتعرف على نماذج مضيئة، وشخصيات مشرقة في تاريخ الإسلام، تتميز بالتسامح والانفتاح ورفض الظلم والضيم وغير ذلك من القيم والمبادئ.
سؤال : ما التغيرات التي شملت مناهج التعليم في المغرب وخاصة مناهج التربية الإسلامية خلال السنوات الأخيرة ؟
جواب: لا توجد في السنوات الأخيرة أية تغيرات، العالم تغير كثيرا وبسرعة، ومناهج التعليم هي هي منذ أمد بعيد جدا، حيث أن مقررات الجذع المشترك لم تتغير منذ عشر سنوات أو ينيف، وهي مدة طويلة جدا إذا قارناها بسرعة التغيرات التي تطرأ على مستويات عديدة. والأمر قريب من ذلك على مستوى الأولى والثانية باكلوريا، أما على مستوى المتغيرات، فإن المقررات السابقة كانت تعرف حضورا قويا للمادة العلمية الفقهية أو العقدية أو الحديثية (المحكم والمتشابه – طرق التحمل والأداء ...)؛ أما المقررات الجديدة، فحاولت جاهدة استحضار البعد التربوي والقيمي (التربية التواصلية – التربية المالية ...) كما استحضرت البعد المقاصدي (كثير من عناوين الدروس تتضمن عبارة : الخصائص والمقاصد).
سؤال : هل ساهمت المقررات الدراسية في الحد من الفكر المتطرف وانتشاره، خاصة وأن المقررات القديمة كانت تتضمن دروسا حول الجهاد والقصاص ؟
جواب: وهل حذف درس الجهاد يحد من انتشار الفكر المتطرف؟ أنا لا أرى ذلك، بل حذفه هو مجرد هروب إلى الأمام، أو محاولة لإبراز حسن السيرة والسلوك لجهة ما، أنا أرى الآن ضرورة إرجاع درس الجهاد أو بعض محتوياته إلى المقرر الدراسي بطريقة ما، لأنه من خلاله يمكن أن تبين للمتعلم أخطاء جسيمة يرتكبها بعض الغلاة باسم "الجهاد"، فدرس الجهاد تبين فيه للتلميذ أن الأصل في الإسلام أنه رسالة سلم وسلام، وأن الجهاد فيه دفاعي وليس هجوميا، وأنه لا يحق لأي كان أن يرفع راية الجهاد/إعلان الحرب العسكرية، وأن المخول له ذلك هو الإمام، أو رئيس الدولة، ويكون ذلك بمقتضى دستوري، دون أن ننسى أخلاقيات وآداب الحرب/الجهاد التي يجب على النشء أن يتعرفوا عليها.
أما القصاص فلم يحذف نهائيا من المقرر، وهو موجود في دروس الباكلوريا الحالية، وتدريسه ليس لذاته، وإنما يذكر عرضا أثناء تبيان السياق التربوي لتشريع العقوبات عامة، ومنها القصاص المذكور في سؤالكم.
كما لا أستطيع الإجابة عن سؤالكم حول المقررات الجديدة ومدى قدرتها على الحد من انتشار الفكر المتطرف، لأن الجواب يحتاج إلى دراسات وأبحاث ميدانية، وهو ما لا أتوفر عليه.
سؤال: كلمة أخيرة للقراء..
جواب: في الحقيقة، المنظومة التربوية في مجملها تحتاج إلى إصلاح عميق وشامل، والتربية الإسلامية يجب أن تكون في صلب هذا الإصلاح، ويهمني أن أشير في هذا الموضوع إلى إشارات محدودة، أهمها:
ü تلافي التكرار في كثير من القضايا، مثل التكرار الواقع حاليا في دروس التواصل والحوار والاختلاف.
ü التقليل أو حذف محور الأنشطة، لأنه يعد حجر عثرة أمام كثير من التلاميذ، حيث يعرضون عن الإجابة عنه في الامتحان، أو يتعاملون معه بطريقة مخالفة للمطلوب.
ü التركيز على البعد القيمي والتربوي، مثل التسامح، والرفق ونبذ العنف مع الآخر أيا كان، وترسيخ مبادئ العدل والمساواة، والتربية على حقوق الإنسان، وربط ذلك بالعقيدة السمحة.
ü ربط المادة بالواقع، وذلك من خلال إدماج مجموعة من الدروس التي تركز على التوعية والتحسيس بمخاطر التدخين والمخدرات والأمراض المتنقلة جنسيا وغير ذلك من الأمراض المجتمعية التي تحيط بالتلميذ من جوانبه المتعددة.
ü استحضار قيم المواطنة والتأصيل لها بطريقة شرعية.
سؤال: الدكتور عبد الله الجباري، شكرا جزيلا على سعة صدركم، وعلى غنى الأفكار وعمق التحليل..
جواب: العفو، بدوري أشكركم جزيل الشكر، وأتمنى لكم التوفيق