يقربنا الجاحظ في نوادره عن المعلمين من واقع شبيه بالذي نحياه اليوم ، طبعا مع مراعاة فروق التوقيت الحضاري ! ولا نبالغ إذا اعتبرنا ما خطته يداه في هذا الشأن بمثابة تأصيل وحفز على توسيع رقعة السخرية من المعلمين ، و الحط من مكانتهم و اعتبارهم داخل المجتمع . وهو ما حذا بالكُتاب من بعده للنسج على غراره تأليفا واقتباسا ، حتى أن الحافظ ابن الجوزي لم يتورع عن تخصيص باب من كتابه " أخبار الحمقى و المغفلين ".....
لتأكيد استحقاق فئة المعلمين لكل ضروب السخرية و التنكيت . فيستهل حديثه عن المغفلين من المعلمين بقوله" وهذا شيء قل أن يُخطيء ، و لا نظن السبب في ذلك إلا معاشرة الصبيان " ثم يورد مقولة للخليفة المأمون تعزو غفلة المعلمين و بلادتهم لعنائهم الدائم في تبديد ظلمات الجهل ! " وقد بلغني أن بعض المؤدبين للمأمون أساء أدبه على المأمون وكان صغيرا ، فقال المأمون : ما ظنك بمن يجلو عقولنا بأدبه و يصدأ عقله بجهلنا ، ويوقرنا بزكانته و نستخفه بطيشنا ، و يشحذ أذهاننا بفوائده ، و يكل ذهنه بغينا ، فلا يزال يعارض بعلمه جهلنا ، وبيقظته غفلتنا ، و بكماله نقصنا ، حتى نستغرق محمود خصاله ،و يستغرق مذموم خصالنا ، فإذا برعنا في الاستفادة برع هو في البلادة ، وإذا تحلينا بأوفر الآداب ، تعطل من جميع الأسباب ، فنحن الدهر ننزع منه آدابه المكتسبة فنستفيدها دونه ، ونثبت فيه أخلاقنا الغريزية فينفرد بها دوننا ، فهو طول عمره يُكسبنا عقلا ، ويكتسب منا جهلا ، فهو كذبالة السراج ودودة القز " (1) بمعنى أن بلادة المعلمين برأي هذا الخليفة ناشئة عن لعبة تبادل أدوار يستنزف خلالها الصبيان نباهة معلميهم وأدبهم و علمهم ، ليُكسبوهم صفات البلادة و الغفلة ، وهي صفات حملت الفقهاء و القضاة ، برأي الجاحظ، على رد شهادة المعلمين في النوازل و الدعاوى حتى قيل أن عقل امرأة يعدل سبعين حائكا ، وعقل حائك يعدل سبعين معلما ، و السبب أنه مع الصبيان بالنهار ، ومع النساء بالليل ! (2)
إن العودة إلى الجاحظ تكشف عراقة هذا النمط من السخرية وشيوعه في المجتمع الإسلامي كأحد أهم الاختلالات القيمية . فمن المحير فعلا أن تتسم مهنة التعليم بالوضاعة في عصر شهد ازدهارا علميا و معرفيا رائدا ، غير أن هذه الحيرة سرعان ما تتبدد أمام تعليل وجيه يطرحه آدم ميتز في كتابه المميز " الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري " ومفاده أن كثيرا مما لحق المعلمين من ضروب الاستهزاء إنما يقع إثمه على الروايات اليونانية الهزلية ، لأن المعلم فيها كان من الشخصيات المضحكة ! (3)
ورغم التبجيل الذي قوبل به المعلمون مطلع القرن العشرين ، حين نظم أحمد شوقي رائعته الشهيرة " قم للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا " إلا أن مسلسل اللمز و التبخيس من قدرهم لم يتوقف . فتواترت المئات من النكت و الكتابات الساخرة التي تحمل المعلم وزر التخلف و الانكسار الحضاري ،و تعتبره المسؤول عن الانفلات القيمي الحاصل !
إن الغضب التعليمي الذي تستبطنه اليوم عشرات الاحتجاجات و الإضرابات و بيانات الاستنكار و التنديد لا ينبغي قصره دوما على المطلب المادي ، بل هو يعكس في الحقيقة مرارة و غبنا جراء اتساع دائرة التبخيس ، و تعدد مظاهر النيل من شرف المهنة و كرامة القائم عليها . فالتصور التربوي القديم الذي يعد المدرس مجرد ناقل للمعرفة في شكلها الأولي ،لا يزال يخيم على العقول رغم النقلة المعرفية التي يشهدها حقل التربية . وهو ما يؤثر سلبا على مكانته في سلم القيمة الفكرية :" إن مهنة المربي لم تكتسب بعد في مجتمعاتنا المكانة الطبيعية التي يؤهلها لها حقها في اتخاذ مكانها على سلم القيمة الفكرية . فالمحامي حتى وإن لم يكن ذا ذكاء عال ، إنما هو مدين فيما يتمتع به من احترام إلى علم محترم ، إذ أن القانون يستمد مركزه من منابع محدودة بوضوح مصدرُها أساتذة الجامعة . و إن الطبيب حتى وإن لم يفلح دوما في شفاء مرضاه ، إنما يمثل علما أجوف ، يتطلب اكتسابه جهودا مضنية وأساليب معينة ، ويمثل المدرس في الجامعة ما يدرسه من علم يكرس له حياته في سبيل تقدمه . و إن ما يفتقر إليه معلم المدرسة ، مقارنة مع هؤلاء كافة ، هو مكانة فكرية تضاهي ما يتمتع به سواه من مدرسي الجامعات مثلا ، وأن السبب في فقدان ذلك إنما يعود إلى مجموعة من الظروف غير الاعتيادية و المقلقة حقا " (4)
أما المظهر الثاني للتبخيس فمرتبط بضعف الإعداد المهني للمعلم ، وتزويده بعدة تكوينية لاتتيح له فرص الإبداع و الكشف و الارتقاء من مستوى ناقل ليصبح باحثا تحظى فعاليته بالمكانة اللائقة . أما بعد التحاقه بعمله فإن صلته بالمستجد التربوي تكاد تنقطع لغياب التوجيه المحفز على تطوير الأداء ، فيبدو المعلم و كأنه دُرب للقيام بالتدريس في عالم الأمس و ليس في عالم الغد . و إذا حدث بالصدفة أن دُرب من أجل الغد فإن الحقائق و مقتضيات الأعمال التي يُكلف بها عند أول تعيين له سرعان ما تقيد جهوده . و سوف يكون نموه المهني من هذه النقطة و في أحسن الأحوال مشكلا و خاصة إذا تعرض للعزلة و الانفصال في مدرسة معينة في قرية نائية (5)
و ينشأ المظهر الثالث للتبخيس عن إخفاق المنظومة التربوية في ملاحقة التطور العولمي السريع ، و الحد من قدرة البدائل التكنولوجية و الإعلامية في التأثير سلبا على تنشئة الطفل وتوجيه اهتماماته. وكان من تبعات هذا الإخفاق أن تراجعت مكانة المعلم وهيبته أمام إغراءات التعلم البديل الذي تتفنن تكنولوجيا المعلومات في تيسيره للطفل .
ينضاف إلى ما ذُكر : توالي فشل السياسات التعليمية ، و الزج بالمنظومة في دوامة التجريب اللامتناهي لوصفات بيداغوجية منزوعة من سياقها الاجتماعي ، وغياب فلسفة تربوية واقعية ومتماسكة تلتئم حولها جهود المنظرين و الفاعلين على السواء .
يذكر التاريخ أن ألمانيا لما حققت نصرا كاسحا على فرنسا في الحرب السبعينية ، سُئل القائد بسمارك : بم انتصرتم على فرنسا ؟ فقال قولته الشهيرة " لقد غلبنا جارتنا بمعلم المدرسة " في إحالة بليغة على الطاقة الخلاقة التي تنبعث في الأمة حين تصدق في كسب رهان التربية .
إن غضب المعلمين اليوم مؤشر على رفض صريح للبقاء في مؤخرة الركب ، وحرص على استعادة وهج المدرسة ودورها الآكد في تشكيل العقول و تحرير الطاقات المبدعة . ومالم تتضافر الجهود و العزائم لتفكيك خطاب اللمز و المساس بالوضع الاعتباري للمعلم فإن مشاريع التنمية و التحديث و الاستجابة للتحدي الحضاري لن تبرح مربع الأماني و أحلام اليقظة !
حميد بن خيبش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن الجوزي : أخبار الحمقى و المغفلين . دار الفكر اللبناني الأولى . 1990 . ص 149
(2) انظر : ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي . ص 95
(3) آدم ميتز : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. المجلد الأول . دار الكتاب العربي . بيروت .د.ت . ص 344
(4) د. عبد العالي الجسماني : علم التربية و سيكولوجية الطفل . الدار العربية للعلوم .1990 . ص 22
(5) فيليب كومبز : أزمة التعليم في عالمنا المعاصر . دار النهضة العربية . 1971 . ص 230