1. لكن هناك من يرى أن وضع الإعلام والمساعدة على التوجيه، الذي وصفتموه بالملتبس والمقلق في بعض تجليلاته، مرده في جانب منه إلى الهيئة نفسها التي تشتغل بمجال الإعلام والمساعدة على التوجيه؟
أعتقد أن الوضع المهني الحالي للهيئة بكل تفاصيله وإفرازاته لا يمكن إلا أن يشكل الصورة الميدانية الحالية؛ حيث يظل تفاعل وتداخل المستويات التي تحدثنا عنها في الجزء الأول من الحوار، مساهما بشكل كبير في تكريس أزمة منظومة بكاملها قمنا بتوصيف مكوناتها ومستوياتها والعناصر المتفاعلة فيها، أضف إلى ذلك أزمة من نوع آخر ذات ارتباط بالهوية المهنية للممارسين في مجال الاستشارة والتوجيه سواء تعلق الأمر بالمستشارين أو المفتشين، حيث زاد من حدتها غياب نموذج إرشادي للتوجيه كمهنة بأبعادها: النظرية، وما تقتضيه من أدبيات ونظريات ومقاربات ونماذج تحليل؛ والعملية، وما تتطلبه من مساهمات ومبادرات ومن تصحيح للتعثرات وإبراز للنجاحات والمكتسبات قصد تطويرها وتعزيزها والتعريف بها حتى لا تبقى مشتتة ومتفرقة ؛ والسلوكية، وماتقتضيه من مواقف ومسلكيات للعمل كما يراها ويتمثلها الفاعلون في الاستشارة والتوجيه انطلاقا من قناعاتهم وتكوينهم وانتظاراتهم ومصالحهم، والتي أضحت تتطلب مجهودا وتعبئة شاملة قصد تخليصها من عناصر الرتابة والاستسلام والممارسة الجامدة المهددة لكل إقلاع ومبادرة تجديدية.
من جهة أخرى، نسجل وبالرغم من اتخاذ مبادرات هادفة لإحداث هياكل جديدة لتنظيم مجال التفتيش منذ سنة 2004، يلاحظ أن جل هذه البنيات والهياكل تعاني إما من غموض النصوص القانونية أو من تقادمها في حالة وجودها، حيث نجد نصوصا تنتمي لما قبل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ونصوص صدرت في إبان الميثاق وأخرى ما بعد الميثاق الوطني في فترة البرنامج الاستعجالي، مما جعل هذه الترسانة القانونية المؤطرة لمهام الموارد البشرية في هذا المجال فاقدة للانسجام والتماسك. وبالرغم من مرور أكثر من 10 سنوات على التنظيم التفتيش في مجال التوجيه التربوي الذي جاء بإحداث المناطق التربوية والمفتشيات التخصصية للتنسيق الجهوي والمركزي، حيث تمت مراجعة مستويات التدخل والانتقال من ممارسة التفتيش على مستوى كل تراب النيابة الإقليمية للوزارة إلى مستوى المناطق التربوية بداخل النيابة، فإن الانتقال من الصيغة القديمة لتفتيش التوجيه التربوي إلى الصيغة الجديدة لم يواكبه مجهود تربوي كاف على مستوى الإرساء والتأطير والتتبع والتقويم والمساءلة، مما جعل أكاديميات التربية والتكوين تتفاوت من حيث معايير التنزيل وتختلف في منهجيات تدبير هذا الملف، وتتباين في اجتهادات الإرساء، الشيء الذي مس هذا الملف في وحدته وبعده الوطني، وأعطى الانطباع في بعض الحالات بأن المنظومة التربوية بكل فاعليها غير مقتنعة، أو بالأحرى غير مدركة كفاية للأدوار الاستراتيجية لمفتشي التوجيه في إحداث التغيير التربوي المنشود بداخل المنظومة، مما انعكس سلبا على الانطلاقة الفعلية لهذه العملية وعمق الارتباك والسلبية في أداءات هيئة تفتيش التوجيه التربوي. وأمام وضع مهني من هذا القبيل، أصبحت الحاجة اليوم ملحة لتحيين ومراجعة الإطار التشريع، والانخراط في بلورة هوية مهنية فاعلة ومؤثرة وسط مفتشي التوجيه، وذلك عبر العمل على تجسيد ممارسة مهنية احترافية تضمن الحضور الوازن في الميدان وترسخ ثقافة المسؤولية والاطلاع بالمهام والأدوار كاملة، والتأسيس لمقاربة جديدة ومغايرة تؤكد وتبرز كيفية مساعدة المستشار في التوجيه التربوي وباقي الفاعلين التربويين والإداريين على إيجاد طريقة ومنهجية في بناء وتنفيذ وتقييم برامج عملهم وفق روح تربوية يطبعها التعاقد والتعاون والإنصات والتحفيز.
2. لكن، في تقديركم، هل مديرية الموارد البشرية غير مدركة كفاية لهذه الإشكالات القانونية والتنظيمية التي تعوق إرساء ممارسة مهنية ناجعة وفعالة في مجال التوجيه التربوي؟
أكاد أجزم بغياب مقاربات عقلانية وقانونية مؤطرة لإرساء منظومة التوجيه في علاقتها بالموارد البشرية، بكل ما يطرحه الأمر من ضعف التدابير والإجراءات في التعاطي مع الإشكاليات المتعلقة باختلالات العرض والطلب، وتحديد وتدقيق المهام والأدوار والوظائف، مما كان له الأثر البالغ في إذكاء الصراعات المهنية في بعض الجهات، خاصة وسط صفوف مفتشي التوجيه حول من هو أحق بعملية التأطير والإشراف ، الشيء الذي لم يساهم في خلق ذلك الاستقرار المطلوب في منظومة التوجيه التربوي.أضف إلى ذلك الغموض المسجل في موقع مفتشي التوجيه التربوي داخل منظومة التربية والتكوين، فمقاربة الموارد البشرية تؤكد ، من خلال النظام الأساسي ل 2003، أن مفتشي التوجيه التربوي ينتمون لهيئة التوجيه التربوي، ولا ينتمون لجهاز التأطير والمراقبة التربوية، في حين أن بعض النصوص القانونية الناظمة للتفتيش في مجال التوجيه التربوي تؤكد عكس ذلك، مما يجعل موقع هذا الإطار غير واضح ومحدد وتتجاذبه تصورات ومقاربات متضاربة في المرجعيات والمنطلقات. ولحدود اليوم، لم تضع مديرية الموارد البشرية حدا لتضارب الآراء حول تأويل وفهم المادة 53 من المرسوم 2.02.854 بشأن النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية، بحيث هناك من يرى فيها دعوة صريحة لازدواجية المهام، أي الجمع بين مهمة القطاع المدرسي ومهمة التفتيش بالمنطقة التربوية، وهناك من يرى عكس ذلك، مما يخلق غموضا والتباسا في المهام والأدوار ويحول دون تتبع وتقويم الخدمات المقدمة للتلاميذفي بعض الأحيان. وعليه، تبدو الحاجة ملحة للإسراع في مراجعة وتدقيق النصوص التشريعية المنظمة لمجال الإعلام والمساعدة على التوجيه، والحسم في موقع مفتشي التوجيه عبر إلحاقهم بهيأة التأطير والمراقبة التربوية. وهناك فرصة اليوم مواتية لتجنيب المنظومة المزيد من الصراعات والتوثرات بما يضمن الاستقرار والآمن المهني إن رغب مهندسو النظام الأساسي المرتقب صياغته في ذلك، والعمل على تدبير كل القضايا المتعلقة بمجال التوجيه بمنظور نسقي استراتيجي يراعي أهمية الخدمات التي يقدمونها الأطر سواء كانوا مستشارين أو مفتشين ويستحضر رغبتهم في الاشتغال ضمن بيئية قانونية آمنة وواضحة.
3 ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه مركز التوجيه والتخطيط في كل هذا، وكيف يجب أن يكون عليه الحال بالنسبة للمصالح المركزية المكلفة بتدبير السياسات العمومية في هذا المجال؟
لابد من التذكير أن المركز اليوم توقف عن الاشتغال في السنتين الأخيرتين في الوقت الذي يتزايد الطلب الاجتماعي على خدمات خريجيه، ضمن سياق تتسارع فيه المستجدات ذات العلاقة بمجال اشتغاله. فلم يعد مستساغا أن تظل هذه المؤسسة العريقة معطلة الأدوار، تعيش على هامش الإصلاح التربوي، وبعيدة عن كل ما يعتمل داخل مجال التوجيه التربوي، وأن لا تلعب دورها كاملا، بحكم وظيفتها البحثية والتأهيلية والإشعاعية في دعم ومواكبة وتقييم الإصلاح في مجال التوجيه التربوي، عبر بلورة رؤية استشرافية مستقبلية للتعاطي مع مجال التوجيه التربوي.
إن الارتقاء بأدوار ووظائف هذه المؤسسة أصبح ملحا، وتحيين ومراجعة إطارها التنظيمي والتشريعي أصبح ضرورة تمليها معطيات الواقع التربوي الحالي. بالإضافة إلى تقييم خدمات هذه المؤسسة وإعادة النظر في آليات اشتغالها بأبعادها التدبيرية والتربوية، ومراجعة هندسة خريطة التكوين الأساس تماشيا مع المستجدات التربوية الوطنية التي طبعت مجالي التفتيش والمساعدة على التوجيه، والتحولات الدولية التي مست هذا المجال.
أما بخصوص المصلحة المركزية المكلفة بتدبير السياسات الوطنية العمومية في مجال الإعلام والمساعدة على التوجيه، فهي مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالإسراع في الانكباب على صياغة عناصر مخطط استراتيجي دقيق لتدبير مجال الإعلام والتوجيه في امتداداته الوطنية والجهوية والإقليمية والمحلية وفق منظور زمني متوسط وبعيد المدى، مع استحضار منطق الأولويات، والحسم في مواقع البنيات الإدارية والخدماتية، وتوضيح مقاربة الاشتغال، وتحديد المداخل التربوية المناسبة لتوطين ثقافة الإعلام والمساعدة على التوجيه بالمنهاج التربوي الوطني، والانخراط في بناء سناريوهات مستقبلية للتعاطي مع مجال التوجيه التربوي انطلاقا من قاعدة معطيات وبنك للمؤشرات، ومواكبة لتنفيذ مقتضيات الإطار التنظيمي للمجال، وتحديد الحاجيات الميدانية من الموارد البشرية ضمانا لتعميم خدمات الإعلام والمساعدة على التوجيه على مؤسسات التعليم الثانوي، وتجسيدا لمبدأ تكافؤ الفرص ودمقرطة الخدمة العمومية في مجال الإعلام والمساعدة على التوجيه.
أجرى الحوار الأستاذ بنعيادة الحسن لفائدة جريدة المساء