عبد الحق الحاج خليفة
شرع المجلس الأعلى للتربية والتكوين في تنظيم استشارات جهوية جديدة بهدف إشراك الممارسين والفاعلين والمهتمين بالشأن التربوي، وذلك في افق الإعداد النهائي لخارطة طريق حول إصلاح منظومة التربية والتكوين. ولئن كان الأمر ليس بجديد إلا أن المطلوب بعد الانتهاء من عمليات التشخيص هو ضرورة تصنيف أعطاب المنظومة التربوية وتحديد الأطراف المسؤولة عن ذلك، في أفق تحميل كل طرف المسؤولية في تصحيح وتدارك ما يمكن تداركه بخصوص قضية مصيرية وصلت اليوم إلى وضع لم يعد معه أي مجال للإخفاء أو التكتم أو التعتيم، بل في أمس الحاجة إلى الوضوح والصراحة والجهر بالحقيقة مهما كانت مؤلمة. وبناء عليه فما هو مطلوب من اللجن التي تعكف على دراسة وتشخيص وضعية التعليم هو التفكير في تنظيم لقاءات مساءلة واستماع للأطراف الثلاثة المسؤولة عن هذه الاختلالات والأعطاب، ويتعلق الأمر بالدولة أولا والحكومات المتعاقبة ثانيا والممارسون الميدانيون ثالثا.
1مسؤولية الدولة: مما لاشك فيه أن العديد من معضلات أو أعطاب المنظومة التربوية المتفاقمة سنة بعد أخرى هي مجرد نتيجة حتمية ترتبت على مستوى الأداء والتدبير لهذا القطاع ، أي أنها برزت تحت ضغط هواجس مادية صرفة تمت صياغتها في شكل قوانين وإجراءات ومراسيم ومذكرات. فمن أجل تقليص حجم الإنفاق على الحقل التعليمي التربوي اتخذت الدولة مجموعة قرارات من أجل هذا الغرض و دون أخذ بعين الاعتبار حجم الخسارة المعنوية التي تكبدتها المنظومة التربوية جراء هذه الإجراءات الرامية لهذا الربح المالي المزعوم؛ والذي لا يراعي خصوصية قطاع أكبر من أن يخضع للمعايير المادية للحفاظ على التوازنات المالية والاستجابة للإملاءات الخارجية التي ما فتئت تلح على ضرورة التقليص من فاتورة الخدمات الاجتماعية ،وهو ما عملت وتعمل الدولة من خلال الحكومات المتعاقبة على تفعيله بواسطة العديد من الإجراءات من قبيل التقليص من مناصب الشغل التي بدأت بتقليص سنوات التمدرس في التعليم الإعدادي إلى ثلاث سنوات عوض أربعة التي كان معمولا به قبل وصول المنظومة إلى الحالة التي هي عليها اليوم ، وإضافة هذه السنة إلى التعليم الابتدائي ليصبح ست سنوات عوض خمسة، وذلك تحت ضعط حسابات تقنية مالية بالنظر لعدد مدرسي الفصل الدراسي في الابتدائي الذي لا يتجاوز مدرسين اثنين مقارنة مع مدرسي الفصل الدراسي بالتعليم الإعدادي الذي قد يتجاوز عشرة مدرسين حسب المواد المُدرّسة، والرهان على التعليم الأولي دون توفير الحد الأدنى من البنيات والتجهيزات، وتشجيع الخواص للقيام بهذه المهمة ولو بأسوء الشروط، كتحويل البيوت المعدّة للسكن إلى رياض للأطفال في المجال الحضري مع غياب كلي في المجال القروي لهذا النوع من التعليم، وتقليص حصص التدريس، وحذف مواد بكاملها، وإحداث المسالك لهذا الغرض، وحذف التفويج في اللغات، وضم مستويات مختلفة ضمن حجرة واحدة، والاكتظاظ الذي يتجاوز ضعف الطاقة الاستيعابية للحجرات الدراسية، والتنقيل التعسفي إلى المستوى الأعلى ولو بمعدلات متدنية جدا وفق منظور الخريطة المدرسية التي تحرص على إفراغ المقاعد للوافدين الجدد ومهما كانت المعدلات، ومهادنة التعليم الخاص بالسكوت وغض الطرف على ما يقترفه في حق المدرسة العمومية، والتفرج على عبثية منظومة التقويم التي تكرس عدم تكافؤ الفرص بين المتعلمين وإخضاعهم لمساواة جائرة، والمقاربة الأمنية لظاهرة الغش التي تنشغل بالزجر والعقاب عوض المقاربة التربوية التي تتصدى للعوامل و الأسباب، وتشجيع ولوج قيم السوق إلى مجال التأليف المدرسي... ولعل أبرز مثال بخصوص إعطاء الأولوية للهاجس المادي على التربوي هو القرار الذي اتخذ بخصوص ما سمي بالمغادرة الطوعية التي نظمت من أجلها ندوات لفائدة الموظفين لتوضيح أهمية المغادرة الطوعية كفرصة لا تعوض، من أجل تحفيز رجال التربية والتكوين وحثهم على المغادرة والتفرغ لمشاريعهم الخاصة، وبالتالي التحريض على إفراغ حقل تعليمي من خيرة أطره. لتكتشف الدولة فيما بعد حجم الخصاص الفظيع الذي نجم عن ذلك مما اضطرها للاستنجاد بالتكليفات والتعيينات في اللحظة الأخيرة. فهل يستطيع المجلس المذكور أن ينصف المنظومة التربوية وأن يطالب الدولة من خلال خارطة الطريق المرتقبة بإعادة ولو جزء يسير من الشيء الكثير الذي انتزعته من المدرسة العمومية وخلال عقود من الزمان وفي كل المستويات التعليمية، عن طريق الشطط المقنن بالمذكرات والمراسيم؟.
2مسؤولية الحكومات المتعاقبة: لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل مسؤولية الحكومات المغربية عن مسؤولية الدولة، وذلك لأن القرارات المشار إليها والمتخذة من طرف الدولة تحت ضغط الإكراهات المادية ، لا مناص للحكومات من التوقيع عليها وتفعيلها والدفاع عنها ودون اطلاع من طرفها على حيثياتها ولا تداعياتها ، طالما أن هذه الحكومات تعترف صراحة أن وظائفها لا تتجاوز تقديم يد المساعدة مما يصعب معه كل حديث عن المساءلة بخصوص القرارات التي توقع عليها ، فالمغادرة الطوعية تمت بتوقيع وزيرين معروفين ناضلا لعقود من الزمان من أجل الدفاع عن كل ما هو عمومي، إلا أن ذلك لم يمنعهما من رفع شعار "الخوصصة هي الحل" حينما انتقلا من المعارضة إلى السلطة. هذان الوزيران يوجدان اليوم في المعارضة وينتقدان الواقع المزري للمدرسة العمومية. ولكن السؤال هو: من الذي ينبغي أن يساءل بخصوص هذه السابقة المدمرة التي لا تغتفر. هل وزير التعليم آنذاك أم وزير المالية، أم هما مجرد منفذين أمينين للتعليمات الصادرة عن صندوق النقد الدولي الذي لا يمكن تفعيل مقرراته من طرف أيه حكومة قبل موافقة الدولة عليها ؟ ومن جهة أخرى من الذي ينبغي أن يُساءل اليوم في هذه الظرفية الفائقة الحساسية والتي تجري خلالها عملية استشارة واسعة بخصوص تأهيل المدرسة العمومية التي يراد إعادة الاعتبار والمصداقية لها ، و في وقت أحوج ما نكون فيه لتصريحات مطمئنة تساعد على المصالحة ورأب الصدع وإعادة الثقة والانخراط والتعبئة الجماعية، ليفاجأ المعنيون بإعلان رئيس الحكومة بأنه "حان الوقت لكي ترفع الدولة يدها عن مجموعة من القطاعات الخدماتية مثل الصحة والتعليم، فلا يجب أن تشرف على كل شيء، بل ينبغي أن يقتصر دورها على منح يد العون للقطاع الخاص الراغب في الإشراف على هذه القطاعات " وإذا كان الكلام موقفا رسميا وليس شخصيا،ألا تتحول الاستشارات الحالية إلى مجرد ملهاة ومضيعة للوقت إذا كانت الدولة تعلن على لسان رئيس حكومتها أنها غير معنية بأي تطوير أو تأهيل لقطاع معتل يستنزف المال العام وليست له مردودية مباشرة بالمعنى العامي،و طالما أن المستقبل بخصوص هذا الشأن الذي يأخذ و لا يعطي هو تفويته للقطاع الخاص؟ فهل شعار التعليم أولوية ثانية، يتبناه الجميع أم هو مجرد شعار للاستهلاك المحلي؟ وما هو الجواب الذي سيقدمه رئيس المجلس الأعلى بخصوص مدى التناغم والانسجام بين مكونات الدولة بخصوص تأهيل المدرسة العمومية؟ وهل يستطيع إقناع الحكومة بضرورة الارتقاء بوعيها بخصوص تعاملها مع المسألة التعليمية من مستوى اعتماد المعايير الكمية المادية إلى المستوى الكيفي الذي يراعي خصوصيتها وما تقتضيه من استثمار في الثروة البشرية باعتبارها تحتل اليوم موقع الصدارة من حيث معايير التنمية البشرية؟.
3مسؤولية المدرسين: لا يمكن اختزال الخصاص الذي يعانيه المدرسون في الحاجة للتكوين ، و ذلك لأن البرنامج الاستعجالي قد خصص هامشا ماليا كبيرا لهذا الغرض واستفاد العديد من المدرسين من الحق في التكوين، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو ما الذي أضافته هذه التكوينات التي استفاد منها عدد كبير من الاساتذة بخصوص تطوير أدائهم داخل الفصول التي تركوها لفترة معينة ليعودوا إليها كما تركوها بنفس الظروف والإكراهات الخاصة بالاكتظاظ وتدني المستوى وحجم المقررات ؟. ولعل الاستشارات الحالية ستكون مناسبة لمعرفة الجواب على لسان هؤلاء المعنيين . إن ما ينبغي الاعتراف به هو أن الخصاص الذي يعانيه جزء من المدرسين وهم لحسن الحظ يشكلون أقلية، هو وقوعهم ضحية الإغراءات المادية وضعف الإحساس بالمسؤولية التي تقتضيها مهن التربية والتكوين كرسالة قبل أن تكون مجرد حرفة أصبحت اليوم نشاطا مدرّا للربح السريع الغير مشروع لا يختلف عن أنواع الريع المتفشية في المجتمع. والذي ساعد على تفشيه وانتعاشه بروز المدرسة الخصوصية كمقاولة تربوية يحكمها البعد التجاري الذي يجعلها بعيدة عن اضطلاعها بوظيفتها التربوية كمقاولة تربوية مواطنة. فهل يستطيع المجلس الأعلى أن يقنع كل المكونات التي تراهن على الحقل التربوي كنشاط مذر للربح السريع بضرورة إعادة النظر في تصوراتها القائمة على الاستفادة من بؤس المدرسة العمومية ومن التبادل اللا متكافئ، الذي جعل المدرسة العمومية عرضة للاستنزاف على أكثر من صعيد؟. إذا تمكن رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين من انتزاع اعترافات و التزامات واضحة وصريحة بخصوص هذه التساؤلات الموجهة لهذه الأطراف يمكن آنذاك التفاؤل بخصوص إعادة الثقة من أجل التفاعل والانخراط.