ذ الشهيد العلوي
الفلسفة صيحة الأغورا المدوية التي ظلت ولازالت تجلجل في مسامع الحضارة الإنسانية ، إنها ليست سليلة القصور الملكية أو البلاطات القيصرية أو المؤسسات التربوية . فالفلسفة ضوابطهامنذاتها ، خلفيتها هي العقل الحر،هو الذي يضبط حركاتها و سكناتها ، لا تنصاع إلا له. لكن نجد أن الفلسفة ثم إدخالها في المنظومة التربوية حيث الأمر و النهي للبيداغوجيا التي تنهل من نظريات علم النفس و علم الاجتماع و الأنتروبولوجيا و البيولوجيا... في هذا الإطار تطرح مشكلة العلاقة بين الفلسفة و البيداغوجيا والتي تستلزم الوقوف على الدرس الفلسفي بين الفلسفة و البيداغوجيا ،أو بعبارة أخرى،الوقوف على الدرس الفلسفي كتجربة فلسفية و الدرس الفلسفي كتجربة بيداغوجية.
إن الفلسفة فكر يرتبط بتحليل و مساءلة التجربة الإنسانية في شموليتها و كليتها قصد إعادة بنائها واغناء دلالتها . إنها بحث في المطلق. لذلك نجد لكل فيلسوف فلسفة خاصة به من خلالها يبرز إدراكه و فهمه الخاصين للوجود الإنساني اللذين يعمل على نقلهما وتبليغهما للاخر، فهو الّذي يحدد الطريقة او الكيفية التي يتم بموجبها هذا النقل، وهي نفسها الطريقة التي يبلور من خلالها فلسفته . انه يستهدف فكرالمخاطب، يحاول إعادة تشكيل وعيه، حتى يغير نظرته للوجود ،للحياة، للأشياء .انها علاقة بين الفيلسوف و المخاطب ،الغاية منها إحداث تعديل و تغيير في الوعي. هي إذن علاقة بيداغوجية مادامت تستند إلى طريقة في التبليغ موجهة بغاية محددة . فكل فيلسوف له بيداغوجيتة التي تتناغم مع فلسفته ،هومن يضع القواعد التي تمكنه من بناء ومن تبليغ تصوراته و أفكاره . قواعد تعكس بيداغوجيا فلسفية، أو لنقل،درسا فلسفيا داخل الفلسفة.
ان سقراط و هو يحاور في الأغورا أو في المأدبات، كان هدفه من الحوار هو الوصول بالآخر إلى الحقيقة.فالطريقة الحوارية كطريقة بيداغوجية،أملتها اعتبارات فلسفية،ارتبطت على الخصوص بقناعة فلسفية سقراطية مفادها ان المعاني الحقيقية توجد في النفس ولا سبيل إلى انتزاعها منها إلا من خلال الحوار الساخر كعملية لتوليد المعنى من العقل. انها بيداغوجية حوارية جدلية تقحم المخاطب في عملية التفكير ليعيد بناء تصوراته بناءا عقليا . وايمانا منه بفطرية المعرفة و قبلية الحقيقة حدد ديكارت منهجا عقليا لبلوغها لإخراجها من النفس وهي الطريقة التي شيدبها فلسفته العقلانية، انها مجموع القواعد العقلية التي يجب الأخذ بها في المعرفة. فقد كان ديكارت ينقل أفكاره بتدرج عقلي متبعا نفس المنهج . انها طريقة في التفكيرتصرح عن ببيداغوجيا ديكارتية نابعة من فلسفة ديكارت . أما هيجل وتماشيا مع قناعته الفلسفية التي تعتبر ان الحقيقة واحدة و مطلقة، اقر انه لا يمكن ان نفكر دون فكر. فالفلسفة هي تاريخها مادامت هي نفسها تجليات مختلفة لحقيقة واحدة هي الروح المطلق، فلا يمكن التفلسف خارج الفلسفة.يقول هيجل: (عندما نتعرف على المضمون الفلسفي نكون نتفلسف أيضا ). انها بيداغوجياهيجلية من صلب فلسفة هيجل
عموما كل فلسفة لها بيداغوجيتها الخاصة بها ، بيداغوجيا من الداخل . وتحديدا يمكن القول ان الفلسفة كسعي وراء المعنى و نقله للغير، تحمل ديداكتيكها في ذاتها. ان البيداغوجيا في هدا الاطار تخضع للفلسفة، لعلاقة الفيلسوف بفلسفته.
اما فيما يتعلق بعلاقة الفلسفة بالبيداغوجيا بالنسبة لمدرس الفلسفة، فالوضع هنا يختلف، ذلك ان الفلسفة تصبح مادة دراسية تندرج في منظومة تربوية تكوينية، تصبح درسا يتم تفصيله وفق براديغم بيداغوجي تحدده المؤسسة التربوية.بحيث يتم تطويع الفلسفة لاختيارات بيداغوجية و ضوابط ديداكتيكية محددة، تستمد مشروعيتها بشكل كبيرمن نظريات سيكولوجية وسوسيولوجية. هكدا يصبح الدرس الفلسفي مجالا تطبيقيا أو بالأحرى تجربة بيداغوجية بعدما كان تجربة فلسفية وجودية. فالبيداغوجيا المدرسية هي التي تحدد الكيفية التي يتم من خلالها تدريس الفلسفة و التي تسمح في نفس الوقت بتعلمها، بما يخدم تحقيق الأهداف و الكفايات المنشودة. فيتم تحديد الطرق و الوسائل و الاستراتيجيات التي ينبغي على مدرس الفلسفة الالتزام بها في نقله للفلسفة . الدرس الفلسفي يتحول الى وضعيات تعليمية تعلمية تخضع لمنطق بيداغوجي صارم يستوعب بطريقته الخاصة منطق الفلسفة،فيفرض عليها ان تتحول الى طبيعته. هكذاتفعل البيداغوجيا بالفلسفة ما يفعله العنكبوت بفريسته. فيصبح التفكير في الدرس الفلسفي من منطلق البيداغوجيا اكثر منه من منطلق الفلسفة، فخلفيته العلمية التربوية تقتضي انتقاء ما يمكن تعلمه من الفلسفة في علاقته بحاجات المتعلم و اهتماماته و بحاجات المجتمع و تطلعاته. انها عملية النقل الديداكتيكي الذي تتعرض له الفلسفة، لتصبح الفلسفة صناعة بيداغوجية، بحيث يصبح للدرس الفلسفي ملامح سبكلولوجية و اخرى سوسيولوجية على حساب ملامحه الفلسفية التي تصبح باهتة. و هذا ما يفسر اختزال الفلسفة داخل الفصل الدراسي في ممارسات مشوهة لفعل التفلسف.ممارسات ديداكتيكية تكاد تكون فارغة من أي محتوى للفلسفة سواء كفكر أو كتفكيرتفكير. هكدا يتحول الدرس الفلسفي الى ممارسة بيداغوجية اكثر منها ممارسة فلسفية ،غالبا ما يكون فيها تعسف غير مباشر على الفلسفة ، كما هو وارد في بعض المقررات الدراسية. بحيث نجد ان بعض النصوص الفلسفية ثم اجثتاتها من سياقاتها التاريخية و النظرية التي افرغتها من محتواها الفلسفي. نفس الامر يتعلق ببعض الاشكالانت الفلسفية عندما تم ربطها بوضعيات مشكلة مرتجلة في حين انها تمخضت عن نقاشات و جدالات فلسفية عميقة.
انطلاقا من ذلك، فاننا نرى ضرورة الموازنة بين البيداغوجيا و الفلسفة، حتى لا تختفي معالم الدرس الفلسفي و يصبح كأي درس آخر. لذلك على استاذ الفلسفة ان يكون حذرا من استمالة البيداغوجيا في الوقت الذي عليه ان يفطن للإنزلاقات الفلسفية التي قد توقع المتعلم في الغموض و الرتابة الفكرية،وذلك بأن يحمل في يده بعض مقتضيات البيداغوجيا وفي اليد الأخرى بعض مقتضيات الفلسفة، حتى تمر رياح البيداغوجيا على بيت الفلسفة دون أن تدمره، و تحل الفلسفة على البيداغوجيا دون أن تصلبها،فيكون الدرس فلسفيا و بيداغوحيا.