عبد الحق الحاج خليفة
إن الغش الممارس من قبل المتعلمين هو شكل من أشكال التمرد والاحتجاج على التعليم الذي لم يؤهل المتعلم للتقويم، ذلك أنه إذا كان التقويم ليس شيئا آخر غير اختبار مدى ما تحقق خلال التعليم ضمن ظروف سليمة تتكافأ فيها الفرص بين الجميع ، وكان واقع الأداء والإنجاز التعليمي التربوي ضمن المدرسة العمومية ، واقع تحكمه العديد من الإكراهات والاختلالات ،ولما كانت فئة عريضة من المتعلمين تلجأ بسبب هذا الواقع إلى استكمال تكوينها إلى الساعات الخصوصية بكل أشكالها وألوانها لسد خصاصها وانتظاراتها التي لم تعد المدرسة العمومية الفضاء القادر على الوفاء بها، وكانت فئة عريضة أخرى لاتملك القدرة المادية المكلفة لسد هذا الخصاص، فإن سؤال الشرعية والمشروعية يطرحان هنا : إذ كيف يجوز الحديث عن الصدق والصلاحية في التقويم علما أن المقررات الدراسية وخاصة منها في المستويات الإشهادية ، يستحيل إنجازها كاملة كما وكيفا ضمن المدرسة العمومية خلال الهامش الزمني المسطر لهذا الإنجاز وأحرى استيعابها بالقدر الذي يمكن معه إختبار مدى ما تحقق منها لدى المتعلمين . إذن فالظاهرة المعضلة لها أسبابها الموضوعية والتي ينبغي تشخيصها في أفق محاولة محاصرتها أو تطويقها على الأقل. ويمكن في هذا السياق المساهمة بالكشف عن ثلاثة أسباب رئيسية لهذه الظاهرة المعضلة:
1) الخريطة المدرسية: ومعاييرها التقنية الإحصائية المعتمدة بخصوص ما تعرفه عملية تنقيل المتعلمين من مستوى أو سلك إلى آخر بإعمال ما يصطلح عليه بعتبة النجاح . هذه العتبة التي يتحكم فيها إكراه أساسي هو واقع الخصاص المزدوج، خصاص في البنيات والتجهيزات ، وخصاص في الموارد البشرية ،الأمر الذي يسمح لفئات عريضة من المتعلمين بولوج السلك اللاحق تحت ضغط إفراغ المقاعد للوافدين الجدد بما دون معدل عشرة بكثير، وهو ما يعني التنقيل التعسفي مع يترتب عليه من مشاكل وتعثرات لدى متعلمين غير مؤهلين للتفاعل مع مقررات لاحقة لا يستقيم التعامل معها دون استيعاب المقررات السابقة .والأنكى والأمر أن ذلك يتم تحت شعار "محاربة الهدر المدرسي" دونما تقدير لما يترتب عن محاربة الهدر الكمي من سقوط في هدر أخطر وهو الهدر النوعي.
2) نظام التقويم شكلا ومحتوى. فمن حيث الشكل، يمكن القول أن ما عرفه نظام التقويم من تطوير في اتجاه العودة إلى الامتحان الوطني ، هي عودة مبتورة أفرغت التقويم من بعض محتوياته الإيجابية التي عرفتها منظومتنا التعلمية أيام تألقها حينما كان المتعلم يقدر ومنذ بداية السنة الدراسية قيمة الامتحان إذ ينتظر منه في آخر السنة اجتياز امتحان حقيقي كتابي وشفوي في مدرسة غير مدرسته وإلى جانب مترشحين غير أصدقائه وتحت مراقبة مدرسين غير مدرسيه وبتدبير إدارة تربوية غير إدارة مدرسته. وكلها إجراءات احترازية لم تعمل على إضفاء المصداقية والموضوعية على اختباراتنا فقط ، بل شكلت حافزا قويا للمتعلمين للتعامل الجاد والجدي مع المقررات الدراسية أثناء التعليم، إذ ليس أمام المتعلم وبالنظر لما ينتظره من صرامة وجدية في التقويم غير اختيار وحيد ممكن ، وهو تحمل مسؤوليته الكاملة في التحصيل أثناء التعليم ومنذ بداية السنة الدراسية، وإعداد نفسه وتهييئها لمواجهة تقويم حقيقي آخر السنة، عوض الرهان على المراقبة المستمرة لسد الخصاص الفظيع في المستوى الذي تكشف عنه الاختبارات الوطنية والجهوية، أما من حيث المحتوى ، فلا زالت صيغ التقويم تعتمد أساليب اختبار الذاكرة والقدرة على الحفظ وتكرس الميكانيكية والاجترار والنمطية وما يترتب على ذلك من لجوء المتعلمين لإعداد صيغ جاهزة ، وأخرى توضع رهن إشارتهم عند نهاية كل دورة وبخصوص كل المواد وفي كل المستويات بمحلات استنساخ الوثائق وبواسطة آلات ناسخة متطورة توفر (النقلة ) بكل الأشكال والأنواع وحتى الميكروسكوبية منها .
3) واقع المدرسة العمومية وماتعرفه من إكتضاض وتقليص في حصص التدريس وحذف التفويج ، وبموازاة ذلك ظهور الساعات الخصوصية ( السوايع) كمخرج وحيد أمام المتعلمين، مع ما يترتب عليها من مشكلات زادت الوضع خطورة وميوعة وتعقيدا غدت معه المدرسة العمومية شبه عمومية وأشبه ماتكون بسوق علني بكل المواصفات ، مع ماتقتضيه معايير المنافسة غير النظيفة ومنذ بداية السنة الدراسية من أجل الظفر بجداول حصص لتدريس المستويات الإشهادية بدءا من مستوى السادس إبتدائي ومرورا بالثالثة إعدادي وانتهاء بالسنتين الأولى والثانية من الثانوي التأهيلي وبصفة أخص المواد المقررة في الاختبارات الجهوية والوطنية . فما الذي يمكن أن تنتجه بيئة من هذا القبيل ، أو فضاء مدرسي تحول من فضاء للتنشئة على القيم الأخلاقية من تضحية وتسامح وبذل وعطاء وإيثار، إلى فضاء لتلقين قيم الوصولية والأنانية والانتهازية والبحث على التفوق المدفوع الأجر ؟ ما الذي يمكن أن يفضي إليه هذا العبث المنظم غير ردود فعل من جنس العمل وهي اللجوء إلى الغش كأحد أشكال الريع الماخوذ بالقوة أو "الحق في الفساد".