حاوره سعيد الشقروني
س: أحاور اليوم الكاتب والأكاديمي المغربي د سلام أحمد إدريسو، أحاور فيكم الروائي صاحب الأعمال الروائية التالية: "العائدة" و"شجرة المريد" بجزئين و"طوق النورس"، وأحاور فيكم الشاعر مبدع الدواوين الشعرية التالية: "طير خماص" و"أسميه حَجرًا غير أليف" و"باب الفراشات"، وأحاور فيكم أيضا الناقد صاحب الأعمال النقدية: "المصطلح الفلسفي في النقد والبلاغة العربيين" و"المعجم الفلسفي" و"مفاهيم أسلوبية"؛ وأحاور فيكم باختصار صاحب " وردة التأويل" والمثقف المنخرط في هذا الواقع والمكتوي بحرقة التعليم والتكوين، المؤسس لتأسيسات جمعوية وثقافية متعددة، والمدير للعديد من المنتديات والملتقيات المغربية والعربية وهلم فكرا..رغم هذا السجل الزاخر، سأطلب منكم د سلام دريسو أن تختاروا الصفة التي أقدمكم بها إلى القارئ ؟
ج: في البداية أشكركم على هذه الاستضافة الميمونة وعلى إتاحة الفرصة لنا للتفاعل مع رواد الفضاء الأزرق من خلال هذا الحوار التربوي الذي نريده أن يكون ممتعا ومفيدا. وجوابا على سؤالكم أقول: أنا كاتب مغربي اختارتني القصيدة أولاً، وذلك في منتصف السبعينات، وسرعان ما سرقني السرد إليه، إذ بدت لي أراضيه شاسعة، هكذا استوطنني السرد وآخيت جنس الرواية تحديدا ولسنوات طوال، وظننت خلالها بأني غادرت الشعر تماما، لكن اكتشفت أني غادرت القصيدة ولم أغادر الشعر أبدا، أو إن روحه الطاغية لم تغادرني إذ ظلت مقيمة تحت رماد كتاباتي الروائية. وكثيرا ما شعرت بالقلق والاختناق لأن ظباء الشعر كانت تلعب كثيرا في شفتي، وبعض أصداقي النقاد كتبوا عني بأني أشعرن السرد، فقلت في نفسي لماذا لا أنازل القصيدة من جديد؟ ..هكذا عدت إلى المرآة، ونظرت مليا إليَّ، ففوجئت بالكثير من إناث القصائد التي وهبني إياها الشعر، لكنني، وفي كل المراحل، نظرت إلى حقيقتي كوني كاتبا وحسب..الكتابة هوية، والشعر نسبها الأول، والرواية رئة الذات والعالم..
س: أحييكم سلام على الصفة التي اخترتم لنا لنؤسس هذا الحوار معكم بهذا النفس الرقراق والشاعري..سأسألكم عن الرواية وعن الأدب عموما؟
ج: يحتاج العالم إلى ظل إنساني يمنحه ألوانه الفطرية الدالة، كما يحتاج إلى لغات بديلة تحدثه عن تاريخ الصمت المضروب غالبا حول أحلامه ورؤاه، وهذا بالضبط ما يقوم به الأدب بشكل عام، والرواية بشكل خاص..
س: عفوا على المقاطعة، هل هذا نقد أو رسم مغاير لوظيفة أو وظائف الأدب؟
ج: أنا أقترح على التفكير النقدي المغربي ثنائية – أحسبها مهملة – قصد تأملها وإعادة ترتيب حمولاتها. إن النثر ليس هو المقابل الثقافي للشعر، لهذا ينبغي تعميق النظر في ثنائية ( سرد/شعر ) بدل ثنائية ( نثر / شعر )، من هنا سيتموضع الوجه الثقافي العميق لجنس الرواية باعتباره الظل الآخر للتعبير الإنساني عن سؤال وجوده، ويصبح فعل التعبير مع هذا الجنس الأدبي السارد لسيرورة الحياة والعالم عميقا لكن بمعنى تأويلها لا وصفها، إذ الوصف مستحيل، في تقديري، لما يحدث للسياقات الإنسانية وجدلية الهدم والبناء التي تسكنها.. الرواية بهذا المعنى رئة العالم، وإلا لكان ينفجر، ولست أبالغ، بشرط أن نفهم جنس الرواية مجتمعا لكل الكائنات الرمزية والتعبيرية التي عرفتها الثقافات الإنسانية، هكذا على الروائي – كي يعيش حقيقته كروائي – أن يعرف كيف يحيى فيلسوفا وشاعرا وتشكيليا وفوتوغرافيا وراقصا وعازفا وبهلوانا ومارقا ووليا ومجنونا ومريضا، وغير هذا مما يتعذر إحصاؤه، وإلا فهو مجرد حكواتي..
س: سأحاول أستاذي العزيز أن أقترب من واقعنا التربوي اليوم، لأطرح هذا السؤال: ما أثر الرواية على التلميذ؟
ج: هذا سؤال يلفت الانتباه إلى المنسي في حياتنا، فكأنك تسألني عن أثر الهواء والماء على الكائن الحي، أو فائدة شروق الشمس المنيرة على أشياء العالم المجهول. خلال ندوة تربوية سابقة، دعوت إلى ضرورة مسرحة الحياة المدرسية، لا بالمعنى الفلكلوري المتعارف عليه للمسرح، بل بالمعنى الروائي العميق لهذا الفن الإنساني العريق. كي نتعرف أهمية جنس روائي دقيق في حياة التلميذ المغربي، يكفي أن نثير فقط السؤال حول الحلقة المعرفية الضائعة حقا في حياتنا المدرسية.
س: بلغة أخرى، ماذا ينقص التلميذ المغربي "ذلك النقص" الذي يتعذر تعويضه بغيره؟
ج: في تقديري ينقص التلميذ من يفهم معرفته الخاصة وتمثلاته ويخاطبها في الآن نفسه.. ينقصه من يعترف بتاريخه الشخصي الغامض والصامت معا.. ينقصه مدرس ذو قامة إنسانية وديداكتيكية وجمالية عالية، تطل على ذات التلميذ وتسبر أغوارها وتمد لها يدها فتنتشلها من الضياع التي هي فيه. لقد دعوت سابقا إلى ضرورة مأسسة المعنى الثقافي في الحياة المدرسية بالمغرب، وهكذا أرى أن تحويل المدرسة إلى فضاء ورشي للسرد والرواية والمسرح كفيل بتحقيق كل هذا المستحيل المعرفي والوجداني داخل حياتنا المدرسية، وخاصة التعليم الأساسي والتأهيلي.
س: هل من ملاحظات حول عملية تدريس الرواية في التعليم الثانوي التأهيلي؟
ج: لدينا حلقات ضائعة عديدة، من عملية تدريس الرواية في التعليم الثانوي التأهيلي، وهذه الحلقات الضائعة ذات طبيعة نسقية، مرتبطة بحلقات أشمل ثاوية في مفهوم الحياة المدرسية ذاته، وهذا سؤال كبير..
س: حلقات..كيف؟
ج: من هذه الحلقات الضائعة:
أ- ما هو ديداكتيكي صرف، متعلق بتدريسية النص السردي وطبيعة الفضاء المدرسي، وفي بعض الأحيان، مرتبط بالعتاد المعرفي والديداكتيكي والإنساني للمدرس.. ينبغي أن نقول للتلميذ لماذا يدرس الرواية؟ ولماذا يدرس الأدب أصلا؟ ومن هنا ستصبح مهام المدرس مغايرة تماما وممتلئة بالتحديات..وينبغي أن نودع عصر الكتاب الورقي، وندخل في زمن المقاربة الرقمية، بحيث يصبح التلميذ حاملا لمكتبته السردية والثقافية أينما وجد، ولهذا الأمر انتظارات منها ما هو مؤسسي سياسي، ومنها ما هو اقتصادي بنيوي، ومنها ما هو ديداكتيكي فارقي، وعلينا بعد هذا أن ننطلق كما تفعل الشعوب المتقدمة بإقراء النصوص الكلاسيكية ذات الجودة العالية: عربية ومغربية.
ب- ما هو بيداغوجي متعلق بالتاريخ الثقافي والقرائي للتلميذ، وبمراتب الاستقبال والتلقي لديه، فما بالك بمرتبة تأويل ما يستقبله..التلميذ المغربي بخير رغم ما نراه من مظاهر العنف والتمرد وعدم الاهتمام، عندما يجهز المدرس الحقيقي، والفضاء المدرسي النسقي، ويتم بناء الحياة المدرسية بشكل شبكي وظيفي، سيظهر لدينا تلميذ آخر يدهشنا، من جلد هذا التلميذ الذي نشكو منه اليوم.
س: ما الذي ينقص درس الأدب في مقرر اللغة العربية في المدرسة المغربية؟
ج: ينقصه ما ذكرت قبل قليل، لكن أقف عند بعض المداخل: ربما آن الوقت لتغيير مسار المدرسة المغربية ديداكتيكيا وبنيويا وثقافيا؛ لابد أن نعيد ترتيب الثنائية البائسة (أدبي/ علمي)؛ لابد أن نضع الدرس موصولا وصلا عضويا مع درس اللغات الحية، ومشحونا تماما بأسئلة الفلسفة اللسانية واللغوية والجمالية التي تصب في أفق التثقيف وبناء المثقف من داخل المدرسة.
لابد وأن يكون للمدرسة دخول ثقافي عند بداية كل موسم، لا بمعنى المهرجان، بل بالانخراط في سياق ورشي حواري حول معنى الأدب ومعنى القصيدة والمسرحية والسرد والرواية والقصة والخرافة إلخ، وأن يتذوق التلميذ رحيق الأدب من أفواه المبدعين مباشرة، عن طريق تنظيم لقاءات ورشية للتلاميذ مع المبدعين، وبكلمة واحدة ننخرط مع التلاميذ في بداية كل سنة دراسية عبر مقاربة ثقافية عنوانها الكبير "مأسسة المعنى الثقافي في المدرسة المغربية" في أفق أن يحبوا ما يدرسون أولا..
س: على ذكر عبارتكم الجميلة "في أفق أن يحبوا ما يدرسون أولا" ما هو المدخل الحقيقي لتحبيب الرواية إلى للتلاميذ؟
ج: هو مدخل بأبواب كثيرة، لكنها، ويا للمفارقة، تُطرق مجتمعَةً وتُدخَل مجتمعة ولو على فترات دراسية:
الباب الأول: مدخل المُدَرِس الروائي، أو المُدِرس الموهوب، وله تاريخه الشخصي في قراءة المنجز الروائي العربي والمغربي وحتى الكوني، وهذا أمر أساسي في تقديري، إذ لا يعقل أن نتطلع إلى تحبيب السرد جملة، أو الرواية تخصيصا بواسطة مدرس لا يقرأ الرواية، أو مدرس لا يفهم التركيبة الثقافية العميقة للرواية، فما بالك إن كان ممن لا يرى فائدة من تدريس الرواية.
الباب الثاني: مدخل ديداكتيكي، ينبغي من خلاله تحويل الفضاء المدرسي إلى محترفات بها مكتبات خصبة، أو إلى مكتبات خصبة فيها محترفات.
الباب الثالث: منهجي مؤسسي، إذ ينبغي استحداث مادة مستقلة في جميع الشعب، اسمها مادة (القراءة): قراءة الكتاب، قراءة الرواية، قراءة المسرحية..هذا كله ينبغي أن يغرس بنيويا في المنهاج الدراسي، ولكن تحت مظلة تغيير المناهج والعقليات والفضاءات..
س: ما الذي تنصح به القارئ أستاذا كان أو طالبا كي يصبح كاتب رواية أو كاتب قصيدة؟
ج: الطريق طويل لكنه غير مستحيل، ليست هناك اختيارات كثيرة: قرار الأستاذ أو التلميذ بيده، يجب أن يفكر هو بالانحياز إلى خيار الكتابة أو عدمه، ومن هنا تبدأ الطريق، لكن المعادلة بسيطة وعالية القامة في الوقت نفسه؛ القراءة ثم القراءة، زمن القراءة هو الوجه الآخر لزمن الكتابة..
س: فيما يخص الرواية مثلا..
ج: أنصح بالبدء بقراءة الأعمال الروائية الكلاسيكية سواء منها العالمية أو العربية، لأن جذور السرد الروائي تكمن هناك في أعمال الرواد من الروائيين الكونيين عربا وغير عرب، لست مع البدء بقراءة الأعمال السردية الحداثية المغرقة في التجريب، هذه خطوة تالية.
الخطوة الأخرى: أن يدخل في زمن كتابة اليوميات، والتقاط التفاصيل، ذلك أن الفاصل النوعي بين القصة والرواية هو هذا؛ أن السرد الروائي هو حلبة التفاصيل والحفر العمودي، وهذا هو منبع الحس الدرامي في السرد الروائي، وفي نهاية الأمر على من يريد كتابة الرواية أن يعي جيدا أن مساره طويل، وأن إنجاز عمل روائي لا يختلف عن إنجاز عمل أكاديمي جاد وعميق سوى في الأداة..
س: هل يمكن أن تنقل إلينا تجربة الروائي والشاعر سلام دريسو مع تلاميذه وطلبته؟
ج: لقد عرفت خلال حياتي التعليمية الطويلة عشرات التلاميذ والطلبة الذين يحملون في جوانحهم حاجة وعنفوانا من أجل التعبير عن ذواتهم وعن العالم، ومنهم من نجا فكتب، ومنهم خلق كثير ابتلعهم وَحْشُ الخوف من الإبداع وعدم الثقة بالنفس. عماد الأمر، هو البيئة القارئة التي ينبغي أن تحتضن التلميذ، على أن تكون من الرحابة بحيث يتسع صدرها للأسرة والمدرسة والمجتمع، ولكن واقعيا هذه الرحابة متعذرة، فلا مهرب من أن تكون بيئة مدرسية أولا، الحياة المدرسية يجب أن تسير في اتجاه مأسسة المعنى الثقافي، وامتلاك الجرأة والخيال الخلاق لابتداع مناهج وأوراش ومواد تصب بمجموعها في أفق خلق حالة واسعة من أفعال القراءة كممارسة يومية؛ تربية الذات على الإيمان بأنها تستحق أن تكون كائنا أعلى من مجرد مستهلك لأشياء العالم وعلاقاته، وتربية الذات على الإيمان بالحب والشغف بالإبداع، وأنه نسغ الحياة وسراج المجتمعات المستنيرة.
س: كلمة أخيرة أستاذي الفاضل
ج: لا تعجب إن قلت لك إن الطالب يحتاج إلى أن يقف أمام المرآة طويلا، وأنا واثق بأنه سيجد الحاجة ملحة للكتابة باعتبارها في نهاية المطاف كتابة بالذات عن الذات التي هي العالم، وكتابة بالعالم عن العالم الذي هو ليس شيئا آخر سوى ذواتنا..
ج: الدكتور سلام دريسو، لم أكن أعلم الحوار معكم حول الأدب وقضايا التربية والتعليم في بلادنا سيكون لهذه اللغة الممتعة والقلق الرافل بالمعاني، شكرا جزيلا.
ج: العفو، الأستاذ سعيد، شكرا لمنبركم مرة أخرى.