حاوره سعيد الشقروني
سؤال: الدكتور سعيد العلام، المختص في العلوم السياسية والقانون الدستوري، والحاصل على الإجازة في الفلسفة من كلية الآداب جامعة محمد الخامس بالرباط، وأستاذ التعليم العالي بمركز تكوين مفتشي التعليم، ورئيس مركز الأبحاث والدراسات في منظومة التربية والتكوين، وصاحب مؤلف: "إصلاح منظومة التربية والتكوين: الأسئلة المغيبة"، وأيضا صاحب رواية "مدائن نون".. بقدر ما أرحب بكم، أصر على شكركم على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار للاستفادة من آرائكم وتحليلاتكم التي لنا اليقين بأنها ستكون مفيدة وذات إضافة.
جواب: العفو الأستاذ سعيد، بدوري أغتنم المناسبة لأشكركم على المواكبة ومن خلالكم أشكر تربويات على حرصها على تنوير الفاعلين والمهتمين والرأي التعليمي بالمواضيع الهامة والمفيدة.
سؤال: أستاذي الفاضل، أبدأ بالسؤال عن التدابير ذات الأولوية ورِؤية 2030 باعتبارها اختيارا آخر لإصلاح المدرسة العمومية لأسألكم عن موقع إصلاح البرامج والمناهج ضمن هذه الرؤية..؟
جواب: أعتقد أن قضية إصلاح المناهج من أهم تجليات التفكير في الإصلاح، وغالبا ما تتصدر مختلف دعوات الإصلاح، فقد كان خطاب 20 غشت 2013 الذي أعلن بمقتضاه الملك إنشاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والذي حدد ملامح الاصلاح في ثلاث قضايا مركزية: إصلاح المناهج، والمسألة اللغوية وإشكالية استمرار السياسات العمومية المتعلقة بالتربية والتكوين؛ كما أن إصلاح المناهج تأتي في صلب اهتمام مشروع الإصلاح الذي أعلن عنه المجلس الأعلى ضمن المرتكز الثاني حيث مدرسة الجودة للجميع، وبالتحديد ضمن الرافعة الثالثة: (نموذج بيداغوجي وتكويني قوامه التنوع والانفتاح والملاءمة والابتكار)، وقبل ذلك كانت حاضرة في صلب ميثاق التربية والتكوين، وكذا التدابير ذات الأولوية التي أطلقت عمليا من خلال مديرية المناهج وطلب عروض تغيير المناهج بالنسبة للسنوات الأربع الأولى من التعليم الابتدائي.
سؤال: في هذا الإطار أعطى جلالة الملك قبل أسبوعين بالعيون تعليماته إلى وزيري التربية الوطنية والأوقاف والشؤون الإسلامية، بضرورة مراجعة مناهج وبرامج مقررات تدريس التربية الدينية، في اتجاه إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعي إلى الوسطية والاعتدال، وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية، ما هي قراءتكم لهذه الخطوة؟
جواب: يبدو أن الدعوة الملكية بتخصيص مجال التربية الدينية له دلالات سياسية أكثر منها بيداغوجية. وقد لا نفصلها عن سياق الدعوة لإيجاد نموذج مغربي للوعي الديني، من أجل مواجهة التيارات المتطرفة، كما أنها لا تنفصل عن سياق إعادة هيكلة الحقل الديني التي دشنتها وزارة الأوقاف من خلال العديد من الميكانزمات والتدابير خلقت دينامية مهمة في مجال التعليم الديني. ويمكن الإشارة هنا إلى حدثين بارزين يشكلان في اعتقادنا مغامرة لا تخلو من مخاطر: ظهير ضم جامعة القرويين لوصاية وزارة الأوقاف، والاهتمام البالغ بدار الحديث الحسنية من خلال استقبالها لأفواج من الطلبة الأفارقة، من أجل تسويق النموذج المغربي الذي يؤكد فكرة الاستثناء المغربي. في اعتقادنا ينبغي التفكير بجدية في إيجاد صيغة توافقية للوعي الديني دون إقصاء أي مكون من مكونات المجتمع، وبداهة التوجه نحو التوافق دون السقوط في متاهة حتمية الصراع؛ فالنموذج المغربي قادر على إيجاد صيغة التوافق لوجود عامل موحد هو رمزية الملك. وهو ما يستدعي مراجعة الدولة لسياساتها الدينية ونظرتها للحركات الاسلامية، بتجاوز المقاربة الأمنية التي تنزع نحو شيطنة تيارات معينة دون غيرها، دون التفكير في الانفتاح على هذه التيارات ومحاورتها، واستقطاب رموزها، فضلا عن المقاربات الانتقائية تجاه الحركات الإسلامية (التوجه الصوفي نموذجا)....
سؤال: هناك من يقول بوجود بعض المقررات الدراسية التي تحث على التمييز ومنها ما "يتناقض" والمبادئ الكونية، فمثلا يدخل تلميذ لحصة الفلسفة وتتحدث عن قدرة الإنسان على الاختيار وحرية التعبير والتفكير والتدين وعن السلم، وبعدها ينتقل الى درس في التربية الاسلامية فيتحدث عن الجبرية وعن الغزوات وما رافقها من عنف، وهو ما يخلق نوعا من الضبابية حد التنافر لدى المتعلم ما قولكم؟
جواب: يبدو أن القضية أعمق من ذلك، فهي مسألة مرتبطة بصراع قيمي بين تيارات سياسية علمانية "حداثية" ( يسارية أو ليبيرالية)، وأخرى تقليدية محافظة ( ذات توجهات ممتدة إلى الحركة الإسلامية "السلفية بالخصوص")، إن هذا التباين الإيديولوجي أطر صراعات معرفية وسياسية ما زالت تتفاعل حتى الآن، دون أن تستطيع الحسم في منظومة قيمية توافقية تحدد ملامح هُوية المجتمع وتصور نموذج للوعي الديني. ويبرز هذا الصراع بالملموس ضمن الوثيقة الدستورية من خلال التناقضات الحاصلة على مستوى تمثل الهوية المغربية التي تتنازعها قوتان اجتماعيتان ممتدتان في المغرب؛ التيارات الإسلامية التي تستند إلى مرجعية إسلامية تتحجج بالخصوصية الثقافية، بوصفها مجالا محددا لقيم المجتمع المغربي، المنسجمة مع هويته الحضارية الممتدة للتراث الاسلامي والثقافة العربية، وبين تيارات علمانية حداثية ذات مرجعية كونية، تحتكم للمواثيق الدولية والقيم الانسانية في بلورة منظومة قيم ترسم ملامح تصور خاص للفرد والمجتمع. إن هذه التناقضات الصارخة التي باتت في السنوات الأخيرة تتخذ شكل صدامات سياسية مكشوفة، من ضمنها الحديث عن مناهج التربية الدينية، أعطت مبررات مقنعة لتشكل تيارا ثالثا أنتج خطابا مميعا زاد من تعقيد وغموض منظومة القيم، فقد أُعلن عن هذا الطريق الثالث ضمن أنساق سياسية أنتجتها الدولة، صاحبها خطاب مزدوج لتصور الهوية الدينية، يزاوج بين الحداثة والتقليد (الأصالة والمعاصرة). أعتقد أن أزمة الإصلاح هي بالدرجة الأولى أزمة قيم، باعتبار مدخل القيم هو المحدد للغايات الكلية المرتبطة بهوية المجتمع، فالنقاش الحالي حول التفكير في إصلاح المناهج الدينية غالبا ما يهتم بقضايا ذات طابع إجرائي عوض أن يتم التفكير في ما هو استراتيجي. ولعل هذا التوصيف الممكن يكمن في البحث عن المعنى والغايات. ويبدو لي أن هذا النقاش ليس موضوع مزايدات ايديولوجية بين فرقاء سياسيين، بل هو نقاش إيديولوجي مرتبط بالمدخلات الكلية لمنظومة القيم، حيث تطرح قضايا جوهرية قد تختزل الأزمة في أنماط من التفكير تتجاوز ثقافة الاستقطاب التي تنتهجها البراديغمات المهيمنة، والبحث عن نموذج توافقي يعيد تشييد الوعي الديني بقيم لا تنفصل عن مقوماتنا الحضارية المشكلة للهوية المغربية.
سؤال: ما هي في نظركم المداخل الممكن اعتمادها في البرامج والمناهج لتساير التقدم الحاصل وكذا التحولات الثقافية والاجتماعية؟
جواب: يبدو أن إصلاح المناهج التربية الدينية تعترضه صعوبتين: أولهما منهجية إصلاح المناهج المتروكة لدور النشر ضمن طلبات عروض وهو ما يجعلها مفتوحة على المجهول، ولتجاوز ذلك ينبغي التفكير في هيئة علمية وازنة من العلماء والتربويين من أجل إعادة بناء المناهج والبرامج الدينية، وفقا لتصور توافقي للوعي الديني يرسم ملامح مضامين مناهج التربية الدينية، بدل أن تترك للوبيات ترتهن لهاجس الربح ورهانات الكسب المادي. وفرضا أننا توافقنا حول منهجية ناجعة بمضامين تخدم الرؤية الوسطية للوعي الديني، فقد تعترضنا إشكالية توحيد رؤية ومضامين تكوين الأطر التربوية؛ فضلا عن صعوبة احتواء الانحرافات الممكنة للممارسة الصفية، فتدعيم الرقابة البيداغوجية مخرج أساس لهذه المعضلة.
وثانيهما هو الخلفية الايديولوجية وراء هذا الاصلاح، فالرهان على الحركة الصوفية كخيار استراتيجي في تضمين السياسة الدينية يعني ضمنيا معاداة التوجهات الأخرى أو على الأقل دفعها إلى الاعتقاد بذلك، وبالتالي توسيع الهوة بينها وبين خيارات الدولة تجاه الحركات الاسلامية؛ فالمقاربات الأمنية غير مجدية في التعاطي مع الظاهرة ، كما أن الرهانات الانتقائية لا تخلق هامشا للتوليف بين هذه الأفكار المتباينة مذهبيا وفكريا، مما يصعب مهمة خلق مجال الاحتواء والإدماج لهذه التباينات المذهبية ضمن مشروع وطني شامل، من أجل مواجهة المد القادم من الشرق، فلطالما ظل الصراع المعلن أو الخفي (في تاريخ المغرب القديم أو المعاصر) بين المشرق والمغرب سواء في ترسيم ملامح الهوية والانتماء للأمة، أو على مستوى فهم الدين وإعطاؤه مدلوله الاجتماعي؛ فالرصيد الهائل من التراث الفكري والديني ضمن هذا السياق، يمكن توظيفه من أجل كسب رهان بناء النموذج المغربي للتحصن من المد الفكري للتيارات القادمة من الشرق.
انطلاقا مما سبق يمكن التأكيد الملح على الجرأة في التعامل مع قضايا العصر والمزيد من الانفتاح في إطار الثوابت، وهو ما لم يفهم باعتباره إشارة واضحة من خلال الخطب الملكية، في الوقت الذي فهمت فيه قضايا أخرى لم ترد في سياق هذه الخطب كان السكوت عنها أوضح من النطق المثير للغموض.
سؤال: الدكتور سعيد العلام، شكرا جزيلا على سعة صدركم، وعلى غنى الأفكار وعمق التحليل..
جواب: العفو، بدوري أشكركم جزيل الشكر على الاهتمام بالموضوع، وأتمنى لكم التوفيق.
- تقتضي المهنية والأمانة العلمية الإشارة إلى هذا الحوار تم نشره بالملحق التربوي لجريدة العلم يوم الأربعاء 24 فبراير 2016 حول إصلاح مناهج التربية الدينية في المغرب، حيث ارتأينا لأهميته نشره تعميما للفائدة، بعدما تمت استشارة د سعيد العلام في الأمر، وبعد القيام ببعض اللمسات التقنية.