تولدت عن الإضرابات المتتالية و الوقفات التي تنفذها الشغيلة التعليمية في الآونة الأخيرة أسئلة مؤرقة على المستوى الفردي , و نقاش محتدم عبر الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي . أسئلة مردها إلى القيمة المضافة التي يمتاز بها التعليم من حيث مجاوزته حدود الوظيفة ليكتسي بعدا رساليا تزكيه النصوص الدينية , والقيم و الأعراف الإنسانية . أما النقاش فيفرض إعادة رسم الحدود مجددا بين الحق و الواجب الوظيفي .
في معرض تحليله للمرجعية الفلسفية التي ينهض عليها خطاب " حقوق الإنسان" أورد الدكتور محمد عابد الجابري عبارة طريفة تناسب السياق الحالي الذي يعيشه المشهد التعليمي : "من واجب الإنسان القيام بما هو واجب عليه حتى ولو لم يكن يتمتع بحقوقه كاملة مادام غير محروم من حقوق يتوقف عليها عمليا أداء الواجب " وليس في الأمر أي انتقاص من الحق لكنه تقييد له بعلاقة التلازم القائمة بينه و بين الواجب . بيد أن لعبة شد الحبل المتواصلة بين الحكومة و "ذوي الحقوق" من المعلمين تضع ثنائية الحق و الواجب أمام مفترق طرق , فإما حقوق كاملة أو إجهاز على الواجب !
فهل تليق هذه الصيغة من التحدي بمهنة يعترف الجميع , طوعا أو كرها , بأنها أكثر المهن أصالة و نبلا ؟
وهل يحق لمناصري خطاب الحقوق أن يناوروا و يلتفوا بشكل موجع أحيانا على نداء الواجب , وأن يُلقوا باللائمة على الوزارة وحدها حين يُثار مشكل هدر الزمن المدرسي ؟
إن مسلسل الاحتجاج هذا يكشف عن غبن اجتماعي يتقاسمه المعلمون دون استثناء . غُبن يرجع بالأساس إلى أن الوضع الاعتباري للمدرس لم يعرف بعد طريقه إلى التنفيذ الفعلي . لا نقصد فقط الوضع المادي رغم أهميته , بل كذلك توفير المقومات وضبط المعايير التي ترفع التعليم إلى مصاف المهن "الرفيعة " على حد تعبير الدكتور سعيد إسماعيل علي . فتراجع المكانة الاعتبارية للمدرس في علاقته بالمجتمع يرخي بظلاله على التوترات الحاصلة اليوم ,خصوصا وأن هناك ترجيحا لفرضية الانتقاص المتعمد من شخص المعلم وحيوية الدور الذي يضطلع بأدائه .
تتحمل الوزارة الوصية قسطا وافرا من المسؤولية من خلال سعيها الدائم لتنزيل برامج وفرض توصيات ومبادرات لم يتحقق التوافق بشأنها , ولم تحظ في الغالب برضى المعلم باعتباره الفاعل التربوي المسؤول عن أجرأتها . ذلك أن تحديث المنظومة التعليمية هو رهان يصعب اختزاله في تشريعات و إجراءات ووصفات مستوردة تُفرض بشكل قسري , بدل أن تكون وليدة السياق الاجتماعي و الثقافي واستجابة للمتغيرات العالمية وشروط الانتساب لمجتمع المعرفة .
أما الإعلام فيكشف بدوره عن علاقة متوترة بالمشهد التعليمي , تخف حينا لتشتد أحيانا أخرى . وهو وضع لا يسمح البتة بتعزيز الثقة بين المجتمع و المدرسة بقدر ما يغذي أشكال الرفض خصوصا في العالم القروي , حين تأخذ بعض الحوادث الفردية طابع الجرم العام الذي يُحاكم في ضوئه كل من يحمل قطعة طبشور بين أصابعه . بل إن بعض المنابر التي تتخذ من مآسي المعلمين مطية لإحراز سبق صحفي , لا تدرك الآثار الاجتماعية و النفسية التي تخلفها هذه الفرقعات الإعلامية. فالأمر لا يقف عند حدود اتخاذ المعلم مادة للسخرية و التنكيت , بل يطال الأمر حرمة المؤسسات التعليمية , بانتهاك فضائها , و الاعتداء المادي و المعنوي على العاملين بها .
وعلى الهيئات النقابية يقع وزر تفتيت الصف التعليمي , و خلق هوامش إلهاء بغيضة تصرف الأنظار عن الإشكالات الموضوعية التي لم تفلح في حلها وتجاوزها . وبدل أن تؤسس لمكاشفة صريحة للذات ,وتبادر لتجديد هياكلها و تصوراتها على نحو يُجذر العمل النقابي الفاعل , فإنها آثرت البقاء رهينة تقاطب حاد بين التعليمي و السياسي / الحزبي , مما أفضى إلى بروز تكتلات صغرى ذات مطالب جزئية , لا تحقق إضافة نوعية للتعليم باعتباره قضية استراتيجية .
إن استعادة التوازن بين الحق و الواجب في المشهد التعليمي مطلب ملح قصد التفرغ لما هو أهم , وأعني بناء منظومة تعليمية قادرة على المنافسة في السوق العالمية , ومؤهلة لإمداد الفرد بالقدرات و المهارات و أنماط السلوك و القيم التي تتيح له الاندماج في فضاء لا يكف عن التغيير و التطوير و الإبداع . غير أنها استعادة لا يمكن أن تتحقق بالمزايدات والشعارات و الهراوات , وإنما بحوار جاد يضع نصب الأعين مصير أجيال الغد !
حميد بن خيبش