بقلم ذ المحجوب سكراني
...إن ظاهرة الاكتظاظ في الفصول الدراسية نوقشت بما فيه الكفاية ، وسال حولها مداد كثير سواء في الجرائد أو الندوات أو حتى ابان انعقاد مجالس المؤسسات...، ورفعت عشرات التقارير الى الجهات المعنية تارة توضح واخرى تنبه وثالثة تقترح...و بما أن العديد من الغيورين على الشأن التعليمي ببلادنا قد استفاضوا ـ مشكورين ـ في معالجة الموضوع بما فيه الكفاية فمحاولتي هاته لا تعدو ان تكون مجرد تذكير ايمانا بمبدأ " وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين "
فبين حين وآخر تتداعى الى أسماعنا شعارات صادرة من هنا وهناك ، وان كانت متباينة شكلا فمضمونها واحد وغايتها التصدي والرفض " لا للهدر المدرسي ، لا للعنف ضد الطفل ، لا لاستغلال الاطفال...وأملنا مستقبلا أن ترفع وزارتنا شعار" لا للاكتظاظ في المدارس ".. هذا المصطلح وبمجرد ذكره تتبادر الى الأذهان مرادفات كلها تحيل على السلبية والتقزز من مثل :" الازدحام ، التضايق ، التكدس ، تجاوز الطاقة الاستيعابية ، الامتلاء..." وهي وضعيات لامحالة نعايشها ليل نهار بل وتعاقدنا معها منذ زمان حتى اصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية "في الأسواق ، وسائل النقل ، المساجد ، الادارات العمومية ،محطات المسافرين ... " ولا غرابة إذن أن تنتقل العدوى الى المؤسسات التعليمية تحت غطاء ما يسمونه "الاكراهات "، والأغرب من ذلك هو استسلام وتقبل فئات عريضة في المجتمع لهذا الوضع واعتباره قدرا لا مفر منه الى درجة كون بعض الآباء حين يهمون بتسجيل أبنائهم في بداية الموسم الدراسي ، عادة ما يضعون نصب أعينهم هدفا واحدا لا ثاني له وهو الحرص على ضمان مكان ولوج الابن للمؤسسة دون التفكير في ظروف الاقامة ، شانهم في ذلك كمن يبحث عن حجز مقعد على متن حافلة ، وحين يدرج اسم المعني بالأمر في لائحة المقبولين تقدم الاسرة استقالتها وتتوارى عن الأنظار.
...وانطلاقا مما يروج بين أوساط المتتبعين والدارسين للظاهرة فالمسؤول الأول عن استفحالها بالدرجة الاولى يعود الى ارتفاع نسبة الخصاص في الاطر التربوية ، اضافة الى البنيات الاستيعابية التي لا تلبي الحاجة المتزايدة على الخدمة التعليمية. و هذا التباين في انعدام الموازاة بين نسبة المتعلمين المتزايد و نسبة المؤطرين و البنيات هو ما أجبر المكلفين بالخريطة المدرسية على اللجوء الى حل ترقيعي ، فأعطوا تعليماتهم من اجل تدبير المشكل عن طريق تكديس الاقسام بأعداد من التلاميذ تتجاوز المعدل الطبيعي تربويا . ولمعاينة الوضع عن قرب يجدر بنا أن نجري مقارنة إحصائية بين نسب المتمدرسين ونسب حجرات الدرس، حيث سنكتشف انعدام التكافؤ بين وتيرة الطلب، والمتمثل في ارتفاع عدد المسجلين ووتيرة العرض، والمتمثل في عدد الحجرات المخصصة للدراسة، وهي الوضعية التي حتمت ارتفاع عدد المتعلمين في القسم الواحد إلى ما لا يطاق . هذا مع العلم ان المسؤولين لم يتفقوا بعد بشأن المعدل المقبول بحيث يتحدث البعض عن 20 الى 25 تلميذا بينما رفع غيرهم السقف الى 30 و 40 تلميذا، وفي الآونة الأخيرة أصبح رقم 46 متداولا بقوة . ليتدخل الواقع و يفرض نفسه ويفاجئ الجميع بإلغائه لكل الفرضيات المطروحة ويعلن العداد عن رقم خمسين فما فوق .وما يجب التنبيه اليه هو كون تداعيات المشكل لا تتوقف عند الفصل الدراسي بمفرده بل تتجاوزه الى بقية المرافق كالساحة والملاعب والمكتبة والمرافق الصحية والمداخل ...حيث التدافع والتسابق الذي غالبا ما تتمخض عنه نتائج غير مرغوب فيها .
إن أهل مكة أدرى بشعابها ، ونساء ورجال التعليم أدرى بالآثار السلبية للظاهرة على المتعلم من جهة وعلى المنظومة التربوية ككل من جهة ثانية لكونهم أول من يكتوي بتبعاتها ، وحين يجتمعون للتداول في شأن الاكراهات التي تواجههم غالبا ما يركزون في تقاريرهم على تداعيات الاكتظاظ ودوره في اعاقة استخدام المرافق التعليمية بالشكل المناسب ، وتأثيره السلبي في تنفيذ الأنشطة العملية المرافقة للمناهج الدراسية والتي يستحيل بدونها مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين داخل الصف المكتظ و لمس مواطن الضعف والقوة لديهم ، ناهيك عن غياب التنويع في الأساليب والوسائل والأنشطة التعلمية ...وهذه الثغرات جميعها تتسبب في صعوبة مصاحبة المتعثرين لتقويم إنجازاتهم بشكل دقيق و فعال يسمح بالدعم و التقوية . أما التدريس بواسطة الطرق البيداغوجية الحديثة كالعصف الذهني و البيداغوجيا الفارقية والعمل بالمنهج التجريبي في التعامل مع المواد العلمية ...فيدخل ضمن سابع المستحيلات ، والنتيجة بالطبع هي هدر الزمن المدرسي وصرفه في توفير الانضباط والهدوء وضبط الغياب، مما يؤثر على العلاقات التربوية عامة لأن الأجواء التي تطبع هذا النوع من الفصول الدراسية تلغي احتضان المتعلمين في ظروف وشروط تربوية يطبعها الحوار و التواصل وتتحقق فيها الأهداف المتوخاة .
. ولتقريب الصورة اكثر دعونا نلج غرفة دراسية ونقيس مساحتها طولا وعرضا ثم نوزعها حسب عدد المتمدرسين ـ ولا يهم إن كان الأمر يتعلق بمجال حضري أو قروي أو بسلك معين لأن الظروف متشابهة ـ فربما قد نصدم حين نصادف صعوبة في عملية القسمة هذه ، وحين نفاجأ بانعدام الظروف الصحية " التعرق ، الروائح ، الامراض المعدية...". ناهيك عن تواجد الحالات التي هي في حاجة الى عناية خاصة كضعاف السمع والبصر والمصابين بالأمراض المزمنة .
أما الحديث عن المسببات فهو ذو شجون ، ويصعب حصرها نظرا لتداخل المسؤوليات وتعدد الاطراف ، وهذا ما سيرجح استبعاد فرضية ـ نقص الموارد البشرية والبنيات التحتية ـ والتي اعتبرنا مسبقا بمثابة المسبب الأوحد ، ذلك أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية وحتى السياسية في بعض الاحيان قد تتظافر وتلقي بظلها على الميدان وتسهم في استفحال الظاهرة ، بدءا بالتزايد العمراني والنمو الديموغرافي المرتفع الذي تعرفه بعض الأحياء الجديدة... " إعادة توطين سكان دور الصفيح..." ومرورا بتدفق التلاميذ الموجهين المنقولين من مؤسسات الوسط القروي إلى مؤسسات الاستقبال بالوسط الحضري، ورفض الأسر التحاق أبنائهم بمؤسسات معينة، وانتهاء بسوء توزيع التلاميذ على المؤسسات (الروافد) ؛...دون اغفال مشكلي التأخير في إنجاز برامج البنايات المدرسية في الوقت المناسب وقلة الاعتمادات المخولة لإنجاز جميع البرامج المقترحة والمعتمدة .
هذا إذن غيض من فيض وما خفي كان أعظم ، وليكن في علم من يهمه الأمر أن الاكتظاظ سوف يظل كابوسا يقض مضجع الجميع ـ الأسرة والمتعلم والأستاذ والادارة التربوية ...ـ وسيظل وصمة عار على جبين مؤسساتنا التعليمية الى اشعار آخر.